تذكّْر اللسان العربي.. / محمد سالم المجلسي

يومَ توفي العلامة أحمد بن محمد سالم المجلسي ودُفن في "اكليب طير ألال" أنشد تلميذه العلامة نحويُّ البلاد يحظيه بن عبد الودود الجكني قوأبي عطاء السندي:

ألا إنَّ عينا لم تَجد يومَ واسِطٍ..
علبك بجاري دَمعها لجَمودُ

عشيةَ قام النائحاتُ وشُقِّقت..
جيوبّ بأيدي مَأْتمٍ وخدودُ

فإن تُمسِ مَهجورَ الفِناءِ فرُبَّما..
أقام به بعدَ الوفود وفودُ.

ثم قال يحظيه: "يا اكليبْ طيرْ ألالْ اكلَع الغب أحمد ماه مزحوم"
فعبَّر بذلك عن حبه لشيخه، وشوقه إلى ربوعه، وتذكُّره لعهود الأنس بالعلم وتَزاحم الطلاب عند الدرس،  فكأنه مَن قال:
رأيت لها نارا تُشَبُّ ودونها..
بواطِنُ مِن ذِي رَجرَج وظواهِرُ

فخفَّضت قلبي بعدما قلتُ إنه..
إلى نارها من عاصفِ الشوقِ طائرُ

فقلت لـعمرو تلك يا عمرُو دارُها..
تُشَبُّ بها نار فهل أنت ناظرُ..!؟ 

وحدث العلامة يحظيه عن شيخه الحسن بن زين القناني أنه حضر مجلسَ شيخه العلامة بُلَّا بن الفال الشقروي وقد أخذ النحو من العلامة المختار بن بونَ الجكني، وكان بلا يُدرِّس تلامذَتَه إعراب الفعل عند قول ابن مالك في مسألة إضمار "أن“ وجوبا:
وبعدَ  "فا" جواب نفيٍ أو طَلَبْ..
مَحضَين "أن" وسترُها حتمٌ نصبْ.
قال الحسن: فازدَرَيت نطقه بالفاء.
لكنه لما قرأ عليه تلامذتُه تأكد من براعته، ولاح له تمكُّنه وحسنُ تدريسِه، فدرس عليه الألفية مع التلاميذ،  ثم أعادها عليه حتى أنهى ثُمنها الأول، فمرض الشيخ بلا،  فظهر من الحَسن بن زين  تعلق بشيخه عجيب، وسما شوقه إلى الدراسة عليه،  فكان بُلا يقول له: إن شفاني الله سأكمل لك الألفية، وإلا فعليك بتلميذي عبد الودود بن انجبنان.

وفي مرض العلامة بلا قال تلميذه العلامة باب بن أحمد بيبَ العلوي:

يا ربٍّ أبقِ لنا بُلَّا لنسأَلَه..
عن كلِّ سِرٍّ من القرءان محتَجِبِ

وعن دَواوين شِعر لا يُفسِّرها..
إلا ابنُ بجدتِها ابنُ الفاضلِ بن أبي.

فرسما محبةً راسخة لروضات علمية تبتهج بها الحياة، وأظهرا تعلقا بشيخ  كان يسقيهم معارفَ أطيبَ من الأمن. 

وكان العلامة مولود ولد محمد اجويد اليعقوبي يرى ما يملأ العين مُتعة ويسمع ما يُشنِّف الأذن حسنا يومَ  كان يدرس عند العلامة  لمجيدري  ولد حبيب الله اليعقوبي، فلذلك كتب إلى أمه رسالة يقول فيها:
يا راكبا بلِّغ المكبولَ والدتي..
لعلَّ أمريَ يأتيها فتدعو لي

أني لدى ابن حبيبِ مُرتَجيا..
مِن عِلمه ما ارتَجَت  مِصرٌ من النِّيلِ.

فتذكَّر دعوات أمه ليستعين بها على ما يرجوه من علم وخير. 

ولقي العلامةُ محنض بابَ بن اعبيد الديماني العلامةَ عليَّ بنَ أبي الحسني فسأله عن اسمه،  فأجابه ابن أبي بقوله مشيرا لشرفه:
يا مَن يُسائلني عني ليعرفَني..
فاهُ إلى فِيَّ من أيِّ الورى نسبي

زوجُ البتولِ سَميِّي إن جهِلتَ بنا..
ومِن أبي طالبٍ ذاك المضافُ أبي.

وقد كان محنض بابه إذا سئل عن كامل القريحة في قول الأخضري في السلم:
والقولةُ المشهورة الصحيحَهْ..
جوازُه لكامل القربحَهْ.

يقول مثل علي بن أبي.. وذلك لتذكُّره لذكائه المتوقد وعلمه الجم.

التذكُّر يُخرج الدفين ويظهر الخَفي،  وله تأثير  لا يخفى على حد قول القائل:
أحدث أني قَد سَلَوت وكلَّما..
تذكرتُها كاد الفؤاد يطيرُ.

وكلَّما تذكَّر الناس هذا اللسان العربيَّ أتذكر بعضَ ما شهدت من قصص أربابِه،  وحائزي مفاتيح أبوابه. 

لقد لقيتُ ذاتَ يوم وأنا خارج من مسجد بُدَّاه العتيق طالبا وَلِع بتقليد المشارقة وَلَعَ الشَّفيق بسُوء الظَّن, وكان يحبُّ الاعتراض على مسائلَ علمية جمع العلماءُ لها الطَّمَّ والرَّمّ, فأسمعني طرفا من محاضرة لأحد الدُّعاة قال إنَّه لم يَر مثلَه في البيان, يقول المحاضر في صَدرها إنَّ عنوانَها "إلى الغَيُورين على السُّنَّة" 
ولأنَّني في طريقي إلى دُروس علمية أركب لها جَناح الشَّوق اعتذرتُ له بضيق الوقت, وقلتُ له إنَّ ما سَمعتُه ليس مبشِّرا بحسن المحاضرة...سألني لماذا؟ فأجبتُه بأنَّ كلمة غَيُور لا تُجمع على غَيُورين, وإنّما على غُيُر, ففَعُول تُجمع على فُعُل..ففطن لذلك واستحسَنَه.
مَضَى معي إلى الدَّرس.. غير بعيد من المسجد, حيث مجلس الشَّيخ المتضوِّع بالآيات والمتون والأسانيد...وكان ضمن كلام الشَّيخ حديث عن الغيرَة على الدِّين, وذَكر الغُيُرَ هناك ...كنتُ أنظر إلى صاحبي  وقد ألقى مَسمَعه لأسلوبٍ متدفِّق البيان, وكلمات قويمة البنيان, ليس فيها "غيورون" بدل غُيُر, ولا "متواجِدون" بدل موجودين, ولا "مُدراء" بَدل مُديرين..

خرج صاحبي مُعجبا بما حازه من فوائد سَنيَّة, وقال إنَّه كان مربوطا عن مرعى خَصيب, وإنَّه لم يَر العِلم في حُلَّةٍ أبهى من الَّتي يُلبِسُه الشَّيخ.
نعم ..إنَّه أحد موازين اللِّسان العادلة, ودَراري البيان المقتَدَى بها, 
أحد أولئك الَّذين لا يخلو حديثهم من تخريج كلمة غريبة, أو توجيه عبارة مُستشكلة, أو ضَبط لفظ مشتَبه, بأسلوب لا يَخرج عن الموضوع إلا إلى ما يَفتق عطورَه ويُرصِّع سُطوره.

حضرتُ كثيرا من مجالِسه العلمية الَّتي كانت سُموطا ذَهبية لامعة, ولم يَكن شرح "السِّمط الفريد من دُرَر التَّوحيد" أقلّها بَصيصا, وكنت أقرأ بين يَديه صَحيح مسلم فلا يزال يَضبط لنا أسماء الرِّجال  ويُعرب كلمات المَتن ويُحكم تصريفَها ويُخرِّج ألفاظَها حتَّى ينتَهي المجلس..فنعودُ وقد صحَّحنا مُتونا وأحكمنا أسانيدَ.. يومَ فَقدَ ضَبطُ الكلام منزلَتَه, وتحقيقُ العلم قيمتَه.

ولا غَروَ..إنَّه شيخنا إبراهيم بنُ يُوسف ابنِ الشَّيخ سيدِيَ حفظه الله..مَن زان مجالس العلم في بلادنا وفي المشرق..وصنف مؤلَّفات في شَتَّى الفنون اللُّغوية والشرعية..فقد نظم "الموقظة" في مصطلح الحديث, ونَظم المثلَّث في اللغة نَظما طويلا مفيدا..وحقَّق خبر التلقين صناعة حديثية ودراسة فقهية, وأحكَم "رفع الحسام" وعَقد "السِّمط الفريد" ..وأنشأ قصائد جميلة في أغراضٍ شَتّى...ولكنَّ التَّواضع غلب عليه.

ومن تواضعه أنَّه عرضَ قصيدة "السِّمط الفريد" على ميزان اللِّسان لمرابط ولد عدُّود فاستحسنها, وراجعه في قوله:
وتعلُّقٌ بالله جلَّ جلالُه..وقُفُوُّ أحمدَ خاتَمِ النُّبئاءِ
فلاحظ ابنُ عدُّود استعماله للفُعول "القُفُوّ" في المتَعدِّي, وإنَّما هي للازم, كما نَقُول علا عُلُوًّا وسما سُموًّا, أمَّا فعلُ قَفا فمصدَره القَفْو كما هو القياس في الفعل المتعَدِّي.
ومعلومٌ أنَّ في القاموس القُفُوّ مصدر قَفا..وأنَّه جاء أيضا فَعَل كثيرا لازما ومصدره فَعْل, كهَمَس هَمْسا..ولهذا أجاز مجمَع اللغة العربية فَعْلا وفُعُولا مَصدَرا لِفَعل اللاَّزم.. لكنَّ الشَّيخ إبراهيم لم يتكلَّم ولم يَستدرِك على شَيخه تواضعا منه, مع علمه بذلك.

يَكثُر اليومَ الحديث عن اللُّغة والشِّعر والأدب وعن اتِّحاداتها, وعن عيد العربية.. وكلَّما سَمعتُ شيئا من ذلك..أحلق  على أجنحة التذكار بعيدا عن ذلك العبث ، وتنهمِر أشواقي إلى دُروس شَيخنا المتضوِّعة بكلِّ علم فائح, والمرصَّعة بكُلِّ فَنٍّ لائح..
حفظ اللهُ الشَّيخ ومتَّعه في رِضاه..وأعادَ دُروسَه طيّبة تُؤتِي أكلَها كلَّ حين..