إني ألقي إلي كتاب كريم/ الرئيس محمد غلام

الرئيس محمد غلام الحاج الشيخ

تلقيت هدية كريمة من صاحب المعالي أحمد كلي ولد الشيخ سيديا، وهي عبارة عن مذكراته القيمة الثمينة التي تشكل عصارة تأملاته في مسار حياته الميمونة.

وكنت ومازلت مهتما بتجارب الإصلاح والتجديد الديني وأثر سلفنا الصالح في ذلك المنحى ، إذ هو تأسيس لما نصبو إليه في الحركة الإسلامية المعاصرة من نهضة في الدنيا وتجديد لقيم الدين ونفض غبار التقاليد البالية عن الإسلام.
ثم لفت انتباهي جمع من الشخصيات توزعتها ربوع هذه الخريطة نهضوا بفرض الكفاية واندفعوا في عملية الإصلاح ومحاولة النهوض بأمتنا ينشدون الرفع من شأنها المتردي.

ولقد كان الشيخ سيديا الكبير رحمه الله تعالى في مقدمة ذلك الركب الطامح للتجديد والساعي للنهوض ، وتميز عن أقرانه بكونه ضرب في الأرض وأخذ من تجارب شتى من أهمها مناقب شيخه الشيخ سيدي المختار الكنتي رحمه الله تعالى الذي كان يدير ما يشبه الدولة ويتحرك بعلاقاتها ويمارس وظائفها في رعاية المجتمع وسد خلة كل محتاج فيه.

لقد ترك لنا الشيخ سيديا تجارب لم تكن مألوفة في بلاد الفترة فهو يحفر الآبار في المهامه ويحيي الأرض الموات، ويعطي عطاء من لا يخشى الفقر، فكان بحق
كهف البرية حاملا أثقالها بين الورى ….
ولقد تبع الشيخ سيدي أنجاله المنعمون من بعده في حمل الرسالة وخدمة المجتمع فكان الشيخ سيدي محمد رحمه الله تعالى السند الثقافي الأهم لروح المقاومة ودفع الصائل المحتل البغيض وتحريك مشاعر أهل الدين

ولو في المسلمين اليوم حر
يفك الأسر أو يحمي الذمارا ….

ثم كان من بعده الشيخ سيدي بابه رحمه الله تعالى فجدد من أمر الدين ماران على العقيدة وأعاد فروع الفقه المتجددة بعامل الاجتهاد إلى الأصول كما انتصب في المجتمع الممزق حاميا لضعيفه مؤلفا للقلوب بين أقويائه المتحاربين ، مصرا على أن تضرب العافية بأطنابها مجتمعا تلفحه مشاعر الخوف تحت ضربات قطاع الطرق.
وقد كنا بحاجة إلى كتاب معالي الوزير أحمد كلي لكي نتعرف أكثر على شخصية فريدة من هذه الأسرة العظيمة هي شخصية الشيخ عبد الله بن بابه رحمهم الله تعالى
كتب الأديب الكبير أنيس منصور كتابه الماتع( في صالون العقاد ) لكن أحمد كلي أتحفنا بما يمكن تسميته (في خيمة الشيخ عبد الله) هذه الخيمة العجيبة التي حلت في تلك الديار محل سفينة نوح تضم عجبا عجابا من الخلائق والتدبير والعلاقات والاهتمامات

وإذا العداة مع العداة تقابلت
وضع العداة عن العداة نصالها ..

ومن خلال الكتاب تعرفنا على جهد جهيد بذله ذلك العَلم عبد الله رحمه الله تعالى في تأسيس الدولة ورعاية نشأتها ومدها بما أمكن من الرأي السديد والجهد المبارك المخلص ،
فمن أجل الأعمال وأعمقها أثرا ذلك البناء الضخم والصرح المنيف الذي أشرف الشيخ عبد الله على بنائه وانطلاقه وانتزع الاعتراف به من الإدارة الفرنسية ذلك المعهد الذي أسس لنقلة نوعية في حياة التعلم المحظري حيث كان جسرا عبرت من خلاله أجيال مميزة أصيلة الثقافة متنوعة المشارب رفدت الدولة الناشئة.

ورجائي اليوم أن يبذل معالي الوزير أحمد كلي جهده وجاهه كي يعود المعهد للحياة و لدوره المميز الأصيل

*في مكتب الرئيس*

وعن الرئيس المختار رحمه الله تعالى أمدنا أحمد كلي بوقائع ونوادر من السيرة العطرة لذلك الرجل النزيه الذي لا يحتمل المساس بالمال العام ولا يُقرب أهل الغلول

ولقد تمنيت لو كان الجزء الثاني بعنوان في مكتب المختار لأن في تلك الحقبة من تاريخنا ووقائع دولتنا ما يحتاج إلى توثيق ينير الطريق للأجيال القادمة وأحمد كلي بذهنية المتأملة خير من يكتب ذلك السفر الماتع بإذن الله

لقد أبان الكاتب عن عمق الغرس الاجتماعي في ذهنية أمثال أحمد كلي

فأنت تقرأ لكاتب تفيأ عاصمة الأنوار باريز ستينيات القرن المنصرم ، أيام فتنتها وزهو الحياة الفكرية فيها مع ندرة النهضة والتحضر في غيرها ، ثم يخرج أصيلا صقيلا يدعو بالرحمة ويفوض الأمر لبارئه ، فنحن هنا أمام شاب لبث عمرا في باريز التي لا تقبل التشبث بالقيم الأصلية للوافد بل تفرض (دينها ) في التحلل وقيمها في التفكير والانبتات من غير ثقافة موليير ..

يخرج من تحت قوس النصر ومقاهي الشان وقاعات السربون قلم أحمد كلي نقيا أصيلا إلا من حسنات تلك الحضارة يمدنا أحمد كلي بتأملات خلدونية كأن الله أخرها عن صاحب المقدمة ملاحظا بعمق واصفا بدقة متحدثا عن شخصيات خالطها بعدل،
ثم يعود لعين السلامة مرابطا بين كثبانها الناعمة يقفو أثر جده رحمه الله تعالى
ياحسن ترداده فقوق الكثيب لنا تأتيك من قبل الريان أحيانا .

حبسنا عليها وهي جدب سوامنا
فما صدنا السعدان عنها ولا صدا

يبدو أن صاحب المعالي استسلم لمنطق أهل (لخيام ) فلم يتحدث في الكتاب عن والده المباشر ولا عن أمه الأدنى ! كما لم نجد أي تعبير عن مشاعر شاب أقبل على مشروع الحياة، ولا كيف استقبلت أسرته الصغيرة صرخة مولودها الأول كل ذلك يدل على قوة ذلك الدستور العرفي المتحكم في الذهنية الجمعية لساكنة ذلك المنكب …

لقد استمتعت بقراءة هذا السفر وأعجبت بنهج احمد كلي في الكتابة والذي لم يستسلم لمجرد سرد الأحداث بل كان ينتقي منها ويمعن النظر ويلقي الدروس المستفادة وذلك ما الأمة بأمس الحاجة إليه

تمنيت لو أكمل الكاتب إضاءاته حول كل الرؤساء الذين عمل معهم كي تكتمل اللوحة وتستفيد الأجيال القادمة ..
أشير هنا إلى بعض من نوادر ماذكر أحمد كلي عن جده الشيخ عبد الله وكلها تشير إلى خصوصية هذه الأسرة الكريمة وأثرها في المجتمع ..
الأولى هي احتفاء بعض أكارم المجتمع (بكلب حيواني) لأهل الشيخ سيديا حيث ضربت الدفوف وسمعت الزغاريد وقدم الإكرام سخيا مبالغا فيه لأنه كلب لأهل الشيخ سيديا .

الأمر الآخر أن الشيخ عبد الله يأمر أن تنثر البذور من على ظهور الحمير لإحياء الارض وتوسيع الغطاء النباتي.
وهاهو يشارك في سقاية الحاج في البيت الحرام ويدفع المال هنالك عمارة للحرمين الشريفين .
تدلك تلك المناقب على وجود جهد إصلاحي متراكم ومجد مؤثل لهذه الأسرة الكريمة ، أعان الله وُراثه على تمثله وحمل أمانته الثقيلة .
لقد كانت الترجمة متقنة العبارة وجملها محررة منتقاة بعناية بذل فيها المترجم جهدا مميزا
إلا أن الأمانة حملته على الارتباط بمفردات النص الأصلي فقرة فقرة فمنعه ذلك على ما يبدو من الانطلاق في السرد المترابط وهو ما أرجو أن يأذن المؤلف باستدراكه في مراجعة الطبعة القادمة إن شاء الله .
محمد غلام الحاج الشيخ