صلاح الدين العدو النبيل/ طه كلينتش

في النصف الثاني من فبراير/ شباط عام 1193، كان أحد أعظم القادة في كل العصور يعيش آخر أيام حياته داخل غرفة في قلعة دمشق. وكان هذا القائد المسمى صلاح الدين يوسف بن أيوب والملقب بـ"صلاح الدين الأيوبي"، قد عاش معظم أيام حياته في ساحات القتال وخاض مغامرات لا حصر لها. وعلى الرغم من كل المواقف الخطرة والصعبة التي مر بها وتعرض خلالها لاحتمال الموت، إلا أنه نطق أنفاسه الأخيرة وتوفي في سريره.

ولد صلاح الدين الأيوبي عام 1138م في تكريت، وهي بلدة قديمة أقرب إلى بغداد منها إلى الموصل، وقد قامت في طرفها الأعلى قلعةٌ حصينةٌ راكبة على دجلة، بناها ملوك الفرس منذ القدم على حجرٍ عظيم، وجعلوها مخازن للذخيرة، ومرصدًا لمراقبة العدو، ثم افتتحها المسلمون في السنة السادسة عشرة من الهجرة أيام عمر بن الخطاب، رضي الله عنه.

عانى صلاح الدين من أول مشكلة صحية خطيرة في ديسمبر/ كانون الأول عام 1185، أثناء قيادته لعملية حصار الموصل. وخلال هذا المرض الذي استمر لأكثر من شهرين، تدهورت صحة صلاح الدين لدرجة أن القادة من حوله أعدوا أنفسهم لموته. لكن ومع انتهاء الحصار، تحسنت صحة صلاح الدين وتمكن من قيادة جيشه مرة أخرى أيضًا. وبعدة عدة أشهر، عاد المرض مرة أخرى ليصيب القائد الشجاع صلاح الدين الأيوبي، وتكررت إصابته في مرض الحمى مرات عديدة في خريف 1190، مما جعله ينام في الفراش لمدة شهر تقريبًا ويظن أنه سيموت مرة أخرى. واعتقد الأطباء المختصون آنذاك بأن السلطان أصيب بمرض "الحمى الصفراء" وبأن موته أصبح قريبا. إلا أنه وبلطف من الله، تعافى صلاح الدين وأعطاه الله القوة والصحة لقيادة معركة حطين الفاصلة، ضد الصليبيين، في الرابع من يوليو/ تموز عام 1187. وتمكن جيش صلاح الدين الأيوبي من تحقيق انتصار مبهر في المعركة واستعاد القدس للمسلمين بعد انتصار ساحق على الصليبيين.

وبعد دخول أيام الشتاء القارس في دمشق، كان السلطان المحبوب في الشرق في نهاية الطريق، حيث أصيب صلاح الدين مرة أخرى بحمى شديدة، وكان جسده متهدمًا لدرجة أن من حوله كان من المستحيل أن يعرف أنه في ال 55 من عمره. وترافقت الحمى الشديدة مع تعرق شديد وصداع لا يطاق. وكان الخدم وأفراد أسرته يبذلون قصارى جهدهم لتحسين حالته التي كانت تسوء شيئا فشيئا، حيث إنه فقد بعد فترة وجيزة أيضًا قدرته على التكلم وبدأ يتعذر عليه التواصل مع من حوله.

قرر أطباء صلاح الدين خلال يومه السادس في الفراش، وضعه في وضعية الجلوس وإعطاءه جرعة من الماء الدافئ. وخلال اليومين التاليين، بدأت الأخبار السيئة، حيث أصبحت ذاكرة السلطان غير مستقرة، وبدأ الإغماء والهذيان. وفي اليوم العاشر، أعطى الأطباء صلاح الدين حقنتين شرجيتين مما أراحه قليلا، إلا أن نوبات التعرق كانت مستمرة وتزداد. وفي الليلة الحادية عشر، تعرق صلاح الدين بشدة لدرجة أنه وعلى الرغم من تغيير ملابسه وأغطية السرير بشكل متكرر، ولوحظ أنه قطرات عرقه تساقطت حتى على أرضية الغرفة وجعلتها رطبة. وفي اليوم الثاني عشر، دخل السلطان في غيبوبة كاملة، واعتقد الأطباء أنه من الممكن أن يلفظ أنفاسه الأخيرة "في أي لحظة" خلال اليوم، لكن ذلك لم يحصل حتى اليوم الرابع عشر من سقوطه في الفراش، حيث توفي صلاح الدين الأيوبي خلال ساعات الفجر في الرابع من مارس/آذار عام 1193. وقد كانت حمى التيفوئيد التي أصيب بها هي السبب الأساسي لوفاته.

خاض صلاح الدين الأيوبي، العديد من المعارك ضد الصليبيين وهزمهم مرات عديدة، وبسبب أخلاقه التي لا تشوبها شائبة تم وصفه ب "العدو النبيل" للصليبيين. وأثناء مرضه أمر صلاح الدين بتوزيع كل ما يملك على المحتاجين. كما أنه أرسل مناديا إلى شوارع دمشق قبل وقت قصير من نهاية حياته. وكان المنادي يحمل رمحًا وكفنًا في يده وينادي قائلًا: "أيها الناس، هذا كل ما يمكن أن يأخذه صلاح الدين معه!". وهكذا، حزن أهل دمشق عندما أدركوا أن حاكمهم الحبيب، والذي كان مثالًا حيًا للتواضع سيغادر العالم قريبًا.

هذا الدرس الذي قدمه صلاح الدين في طريقه إلى الآخرة لم يؤثر فقط على المسلمين، بل أثر أيضا على المسيحيين الذي كانوا يحاولون بأن يكونوا على دراية بكل تفاصيل اللحظات الأخيرة لـ "أعدائهم النبلاء" على الأرض، وقد أبدوا إعجابهم وذهولهم بمراسم جنازة صلاح الدين. كما جسد القس جاك دي فيتري (1180-1240)، الذي عاش في القرن التالي، ثبات صلاح الدين في وجه الموت وبساطة رحيله عن العالم، خلال خطبه ودروسه، وذلك على الرغم من عداءه الكبير له. وقد أكد القس أن مراسم الجنازة المسيحية يجب أن تكون بسيطة مثل مراسم صلاح الدين.

ملاحظة للقراء المهتمين:

التفاصيل المذكورة أعلاه لمرض صلاح الدين الأيوبي ووفاته مفصلة في مؤتمر "لماذا وكيف مات صلاح الدين بالضبط؟"، والذي عقد في كلية الطب بجامعة ميريلاند بالولايات المتحدة الأمريكية عام 2018. ولقد قمت أنا باقتباس بعض المعلومات من البيان الختامي للمؤتمر ونقلته لكم.

قد لا نعرفه نحن جيدًا، لكن صلاح الدين لا يزال حتى الآن في أذهان الغربيين.