حكومة غزواني الثالثة ...توازنات الداخل ورهانات الخارج (تحليل)

مثلت حكومة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني خلال سنته الثالثة الحدث الأبرز منذ أسابيع، وخصوصا بعد حديثه أمام الجالية في مدريد وكذا في قصر المؤتمرات، الذين استعان فيهما رئيس الجمهورية بمعطيات من الخطاب التقليدي للمعارضة

ورغم أن الكفاءة والجدارة لشغل المنصب، هما الشرطان الأساسيان الذين ينبغي أن يتم على أساسهما الاختيار، كما أنهما الموجهان أيضا لقلم التحليل السياسي في التعاطي مع التعديلات الوزارية، فإن من الصعب إغفال جوانب التوازنات الجهوية والسياسية الحاضرة دائما في أي تشكيل في الأغلبية أو المعارضة.
جاءت الحكومة، بعد كثير من الانتظار، وحركت أسئلة متعددة، بشأن بقية المأمورية، كما وضعت علامة استفهام كبيرة حول "ملف الانتخابات، والعلاقات الخارجية" بعد أن انتقل رجلا ثقة الرئيس محمد أحمد ولد محمد الأمين إلى الداخلية، ومحمد  سالم ولد مرزوق إلى الخارجية.

الوزير الأول ...الهدوء نقطة قوة
استعاد الوزير الأول المهندس محمد ولد بلال منصبه، بعد شائعات الاستغناء عنه، ويرى البعض أن الوزير الذي لا يستند إلى وزن سياسي أو قبلي كبير استفاد من نقاط قوة يعتبرها آخرون مرتكزات ضعف ومن أهمها:
-    عدم التسيس المباشر: فلم يؤسس ولد بلال لحد الآن حلفا سياسيا محليا أو وطنيا، كما لم يستغل أيضا عمقه الشرائحي في بناء قوة شعبية.
-    غياب لوبي دعم داخل السلطة: إذا لا يعرف عن الرجل سعيه لتشكيل قوة ضغط داخل السلطة ومراكزها الإدارية.
-    الغياب الإعلامي: يرى بعض المراقبين أن الوزير الأول استفاد من "غيابه الإعلامي" فلم يتعرض خلال الفترات المنصرمة للحملات الإعلامية التي تعرض لها عدد من أعضاء حكومته، كما لم يكن أيضا موضع" تلميع إعلامي".
ومن خلال هذه المرتكزات، يبدو أن الوزير الأول استفاد من هدوئه، فلربما كانت فائدة الإبقاء عليه أكثر أهمية من ضريبة إقالته، وذلك من أجل استمرار مسار هادئ من التنسيق الحكومي.

تجديد بطعم التوازنات التقليدية
أخذت التوازنات الاجتماعية دورها بقوة في تشكيل حكومة ولد بلال، وتم تطبيعها بلبوس سياسي أكثر وضوحا من سابقيتها اللتين روعي فيهما بعض البعد التكنوقراطي.
ومن أبرز أمثلة التوازنات القبلية والمناطقية
-    تعيين وزير المالية اسلم ولد محمد امبادي خلفا لوزير الصيد الدي ولد الزين، حيث يشتركان الانتماء القبلي في ولايتهما تكانت
-    حل رئيس حزب الاتحاد من أجل الجمهورية سيدي محمد ولد الطالب أعمر محل وزير النقل والتجهيز محمد ولد امحيميد، ورغم انتماء الرجلين إلى مجموعة قبلية واحدة.
-    حل وزير الثقافة ختار ولد الشيباني محل وزير الصحة ولد الزحاف، حيث ينتميان أيضا إلى آصرة اجتماعية واحدة
-    حل وزير التجهيز والنقل المختار ولد أحمد ولد اليدالي في التمثيل القبلي محل الوزيرة الناهة بنت الشيخ سيديا
-    أما وزير الوظيفة العمومية، فقد نال النصيب المخصص للمجموعة القبلية التي يمثلها، والذي كان سابقا من نصيب الوزير عبد العزيز ولد الداهي.
-    وعند خروج وزيرة التعليم العالي، كان التمثيل مجددا من نصيب عمدة ألاك السابق محمد ولد اسويدات، حيث ينتميان أيضا إلى نفس المجموعة، رغم اختلاف مشاربهما الروحية والسياسية، حيث يعزز ولد اسويدات حضور مجموعة أهل الشيخ القاضي على حساب حضور مجموعة أهل الشيخ عبد الله التي ما تزال محافظة على موقع متقدم بوجود أحد أبنائها على رأس إدارة الجمارك الوطنية.
-    وفي مكطع لحجار كان التعديل أكثر وضوحا عندما تولى السياسي المخضرم يحيى ولد أحمد الوقف منصب الوزير الأمين العام للرئاسة، ليغادر ابن عشيرته وزير الزراعة مضارب الحكومة، وليدخل وزير الصيد محمد ولد امعييف ممثلا لحلف سياسي مهم ومقرب جدا من وزير المالية الأسبق المختار ولد أجاي.

المضمون السياسي في التعديل الحكومي
يرى البعض أن التعديل الحكومي أظهر المضمون السياسي الانتخابي للفترة المقبلة وذلك عبر رسائل متعددة، منها على سبيل المثال:
-    إعادة الاعتبار للمناطق الشرقية من البلاد: حيث استأثرت ولايات الحوضين ولعصابة بحوالي 50% من الحكومة من خلال 14 مقعدا وزاريا، فحصدت ولاية الحوض الشرقي 7 وزراء، فيما اكتفت ولاية الحوض الغربي بوزيرين، لصالح خمسة وزراء في لعصابة.
وتظهر في هذه التوزيعة الأخيرة رسائل الوزن الاجتماعي والحضور الفعال ضمن رسائل متعددة أخرى من بنيها
-    حفاظ وزير الدفاع الفريق حننا ولد حننا على منصبه، وإلى جانب البعد السياسي المحلي الذي يمثله الرجل، فإن إمساكه بملف الدفاع والعلاقات العسكرية للبلاد، في ظرف ومحيط متقلب يجعل بقاءه في منصبه ضرورة استراتيجية للبلاد من وجهة نظر البعض، بينما يرى آخرون أن هنالك تضخيما لدور ومكانة الرجل إذ لا يعدو  قدره - حسب هؤلاء- منفذ برامج وسياسات شبرا بشبر وذراعا بذراع.
-    حافظ وزير العدل محمد محمود ولد بيه على منصبه: خصوصا أنه استطاع إدارة القطاع بمستوى من الهدوء دون أزمات كبيرة،  من وجهة نظر البعض كما أن بقاءه يمثل رسالة إيجابية تجاه الحلفاء الخليجيين، وخصوصا دولة الإمارات، وذلك بعد مغادرة وزير الخارجية – المحسوب أيضا على الحلف الخليجي لمنصبه.
-    بعودة وزير التعليم العالي محمد الأمين ولد آبي ولد الحضرمي إلى الحكومة يستعيد حلف أهل الشيخ محمد فاضل في الحوضين مستوى من ألقه بعد فترة من الخروج النسبي من دوائر القرار.
-    حافظ وزير الإسكان سيدي أحمد ولد محمد على منصبه: وفي ذلك أيضا رسائل متعددة، منها الاحتفاء بمستوى الإنجاز الذي حققه في قطاع الإنشاءات - رغم ما يثيره تسييره للقطاع من أزمات وانتقادات بين الحين والآخر.
-    كما أظهر الاحتفاظ بمفوضية الأمن الغذائي فاطمة بنت خطري، تعزيز الثقة في حلفها السياسي والقبلي، زيادة على تعزيز موقع المجموعة السياسية لحزب "عادل" بوزيرين، دون فقد الحزب للمقعد البرلماني.
-    يضفي وجود الوزير الشيخ الكبير ولد مولاي الطاهر تعزيز وتقديرا للحلف المناوئ للوزير السابق سيدنا عالي ولد محمد خونه، كما يعزز أيضا قوة حليفه وزير الدفاع حننا ولد حننا الذي يعتبر محورا مركزيا في النظام، وممثلا في الحكومة بثلاثة مقاعد على الأقل.
أما في الحوض الغربي، فقد احتفظ الوزير الداه ولد سيدي ولد أعمر طالب - المحسوب على وزير الدفاع- بمقعده في وزارة الشؤون الإسلامية، فيما دخل الوجه الجديد ختار ولد الشيباني المحسوب على قائد الكلية العسكرية لدول الساحل الجنرال ابراهيم فال ولد الشيباني، والمقرب أيضا اجتماعيا من رئيس المجلس الجهوي للحوض الغربي ختار ولد الشيخ أحمد.
أما ولاية لعصابة فقد كان من اللافت الاحتفاظ بالوزير لمرابط ولد بناهي في الحكومات الثلاث، حيث دار على ثلاثة قطاعات وزارية مختلفة، ويعود سر قوته بشكل خاص إلى وزنه الانتخابي في كنكوصة، إضافة إلى تعزز موقعه السياسي بوجود قائد أركان الجيوش الوطنية ونائبه المقربين منه اجتماعيا.
وكان من اللافت أيضا تحول صديق الطفولة الشخصي للرئيس الغزواني السيد محمد سالم ولد مرزوق إلى وزارة الخارجية، مما يعني تحولا في محاور العلاقات الخارجية للبلاد، وسيضفي تعيينه مستوى من التفاعل مع المتغيرات السياسية في فرنسا التي تعيش أجواء حملة انتخابية ساخنة، فيما يرى آخرون أن منحه وزارة الخارجية يأتي استرضاء له بعد رفضه تقلد منصب وزير المياه، حيث يرى البعض في المنصب الجديد تقليصا للطموحات السياسية المتصاعدة لولد مرزوق، في أفق رئاسيات 2024
أما تعيين مدير الديوان السابق وزيرا للداخلية، فبقدر ما يبعد الرجل الحديدي- وفق تعبير المناوئين- عن ديوان الرئيس، ويقلل من حجم الانتقادات التي وجهها إليه سياسيون متعددون بفرض حصار تام عليهم ومنعهم من التواصل مع الرئيس الغزواني، فإنه يفتح أيضا باب التحضير للانتخابات النيابية والبلدية القادمة، وسبق للرجل أن مهد لانتقاله إلى الداخلية من خلال التعديلات الأخيرة في الإدارة الإقليمية، والتي صعدت العديد من مقربيه إلى مراكز النفوذ في الداخلية.

ومهمى قيل  فالرجل "عيبة"  نصح الرئيس ومحل ثقته، فيما يبدوا.
أما في ولاية البراكنة فقد كان الحظ الوزاري من نصيب الحلف المناوئ للفريق المتقاعد محمد ولد مكت، حيث صعد وزير الصيد محمد ولد امعييف المحسوب على شقيقه الجنرال المتقاعد محمد فال ولد امعييف، والمتحالف مع الوزير السابق المختار ولد أجاي، كما صعد أيضا وزير الثروة الحيوانية، محمد ولد اسويدات الذي توترت علاقته أخيرا بحلف الفريق مكت.
ولاية آدرار حافظت على ثلاثة مقاعد وزارية، توزعت بين مقاطعتي أطار وشنقيطي، حيث حافظ الوزير عبد السلام ولد محمد صالح على موقعه في وزارة النفط، معززا التمثيل الحكومي لمجموعته السياسية، ويصدق الأمر على وزير التعليم الثانوي محمد ماء العينين ولد أييه، الذي تعزز موقعه السياسي بتكليفه بالنطق باسم الحكومة.
وكان من اللافت دخول الوزيرة الجديدة صفية بنت عبد الفتاح ولد انتهاه إلى الحكومة بعد سنوات طويلة من غياب أي تمثيل وزاري لمجموعتها الخاصة في الحكومات المتعاقبة.
وفي ولاية انشيري كان النصيب الوزاري في صالح محمد عبد الله ولد عثمان، الذي حل في التمثيل القبلي محل الوزير المقال عبد العزيز ولد افيل ولد الداهي، إلا أن المفارقة أن الوزير المذكور محسوب على الوزير الأول، ومرتبط به سياسيا، ومجتمعيا ببلدية امبلل جنوب موريتانيا.
ومن جانبها نالت ولاية الترارزة نصيبا معتبرا من المناصب الحكومية، التي توزع نصيبها في الحكومة بين مقاطعاتها باستثناء الركيز، حيث حضرت كرمسين من خلال الوزير الأول محمد ولد بلال، فيما كان نصيب المذرذرة الإبقاء على مفوض حقوق الإنسان الشيخ أحمدو ولد احمدسالم ولد سيدي، فيما تراجعت حضور مقاطعة واد الناقة، بعد تعيين وزير الخارجية إسماعيل ولد الشيخ أحمد ولدمحمد لقمان، مديرا للديوان، وكان نصيب بوتلميت لصالح الوزير المختار ولد أحمد ولد اليدالي، فيما حافظت مقاطعة انتيكان على تمثيلها من خلال وزير الشؤون الاقتصادية عثمان كان المحسوب أيضا على رجل الأعمال محمد ولد بوعماتو.
وفي منطقة الضفة، نالت المجموعة الزنجية خمس مقاعد حكومية، موزعة على ولايات كيديماغا وغورغل والبراكنة- والترارزة
وبشكل مختصر يمكن القول إن الحكومة الجديدة حملت رسائل للداخل والخارج، فمن رسائل الداخل
-    تعزيز الحضور القبلي والتوازنات المحلية، استعدادا للانتخابات الرئاسية القادمة.
-    محاولة تبييض ما بقي من مأمورية الرئيس من خلال إبعاد بعض العناصر الوزارية التي أثارت جدلا تسييريا أو أخفقت في أداء بعض مهامها.
-    تعزيز الحضور السياسي في الحكومة من خلال استوزار بعض قادة التحالفات السياسية المحلية.
- يفتح تعيين قيادة حزب الاتحاد من أجل الجمهورية الباب واسعا أمام تعديلات في الهرم القيادي، قد تصل اختيار رئيس جديد، في مؤتمر طارئ تمهيدا لخوض الانتخابات البلدية والنيابية، وبعبارة أخرى فهل يمثل تعيين ولد الطالب أعمر، وولد أحمد الوقف تقديرا وتثمينا لجهودهما السياسية، أم ترضية إبعادا لهما عن الملف السياسي الذي أداراه خلال سنتين ونصف من مأمورية الرئيس.
- إقالة عدد من وزراء الحكومة السابقة، أظهر تأثير الإعلام والمدونين، ومن أبرز هؤلاء المقالين: وزير المالية الذي تلاحقه حملات إعلامية متعددة، في قضايا منح الأراضي، إضافة إلى مندوب تآزر الذي تعرض لانتقادات لاذعة من بعض  المدونين يتهمونه فيها بسوء التسيير وضعف الأداء، وكذلك وزيرة التجارة الناهة بنت مكناس التي يعتبرها بعض المدونون "الوزير المخلد" في الحكومات المتعاقبة، وفي المقابل لم تشفع العلاقات  الإعلامية الوزارنة للوزيرة الناهة بنت الشيخ سيديا، والانجازات من وجهة نظر البعض، بالبقاء في منصبها، لتصطحب معها في رحلة الإقالة وزيرة التعليم العالي آمال بنت الشيخ عبد الله، رغم الصورة الإيجابية التي حققتها لدى شركائها في القطاع، وخصوصا النقابات الطلابية.
أما رسائل الخارج فقد كان من أبرزها:
-    استقرار الرؤية الأمنية والدفاعية للبلاد من خلال الإبقاء على وزير الدفاع 
-    التوجه إلى المحور الغربي والإفريقي بشكل خاص من خلال تكليف الوزير محمد سالم ولد مرزوق.
رغم مايشاع من أن الرئيس كان يرغب في تقزيم دوره  من خلال منحه حقيبة المياه، وأن  سبب  توزيره على  الخارجية  بسبب رفضه  لحقيبة  المياه.
ومهما يكن فالأكيد أن الحكومة الحالية ليست النسخة الأخيرة في حكومات ما قبل المأمورية الثانية، وفقا لمنطق المحاصصة السائد فما تزال بعض الثغرات السياسية التي خلفتها التشكيلة، وبعض التذمر من تهميش أو تجاهل قوى سياسية وقبلية وازنة، يحتاج إلى ترميم وزاري، قد لا يكون بعيدا جدا، وبعيدا عن الحزورة السياسية، يبقى  الأمل  المشرق في القلوب المعناة معلق بحكومة كفاءت وطنية  تختار وفق مبدأ الجدارة والكفاءة المهنية  والنزاهة، بعيدا عن إحياء نعرات القبيلة والجهة والفئة، فتلك الحكومة هي التي قد تنفع الناس وتمكث في الأرض.