مناهج علماء الأمة في ضبط المروي .. / رقية أحمد منيه

تطالع على تطبيقات التواصل الاجتماعي من حين لآخر بعض الأقوال الخارجة عن النسق العام لمن ينسب نفسه للعلم أو يظن رأيه من صميم المدرسة العقلانية، ولو لم يكن يحمل صفة أكاديمية، لاستحق أن يعامل بمنطق الاعراض عن الجاهلين، ولكن من باب تنبيه الغافلين وتنوير السامعين، والنظر إلى المخالف بعين البحث عن الحق، والحق وحده دون غرض الجدال العقيم، أو الاستهزاء بقيمة العلم الذي قد لا تظهر علاماته على الأقوال الصادرة عن المتقول، الأمر الذي يحيدها عن مجرد الخلاف السائغ في صحة أو ضعف المرويات، أو تباين الأفهام في التفويض أو التأويل.

ولا مشاحة في اعتبار الاختلاف بين المدارس العلمية بشرط انتمائها لحقل علمي واحد، فلو أن عالما بعلم الأصول من باب المثال؛ أقدم على تتفيه بعض المسلمات في علم الطب بقوله أنه لا وجود للجهاز المناعي مثلا، لقامت قائمة  أطباء الأبدان في وجهه، ولعد متطفلا على تخصص غيره، ولهم كامل الحق في إبعاده عن فنهم، وإبداء الرأي السديد تجاه من يحشر أنفه في إناء الآخرين.

ثم إن زرقة الفضاء الافتراضي العلمي؛ ينبغي أن لا تختلط بألوان التفاهة والتمييع والاستهزاء المنتشرة بين أصحاب الحسابات ذات المحتوى الرديء، وأن تبقى ملاذا للباحثين عن العلوم النافعة؛ نحو علم المنطق، وعلم الفلسفة، وعلم الاجتماع، وشتى العلوم الإنسانية الخادمة لدراسة السلوك البشري بمختلف أبعاده الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

وليت تلك الزرقة تعبير عن الصفاء والتوشح بألوان السماء الزاهية، ولكنه فضاء  ملون بألوان التطاول والتشكيك في روايات تواترت الأمة سلفا وخلفا على صحتها، ووردت في
أصح كتب السنة.

وليس من أساليب الحجاج العقلي المنصف تناولها على سبيل التفكه أو السخرية، كما أن إعمال أسلوب التساؤل لا يليق مع مقام كلام المعصوم صلوات الله وسلامه عليه، وإن كان ثمة محاولة البحث في ثبوت المروي من جهة السند أو المتن أو التأويل فالأولى تركه لأهل الفن الذين أفنوا أوقاتهم في التمحيص والتجريح والتعديل والترجيح والضبط. 

 ثم إنه لا تزال سهام المتربصين تترصد كتب السنة والتراث الإسلامي بالطعن والتخطئة والاتهام.

وقد غاب عن البعض أن السنة المطهرة محفوظة بحفظ الله تعالى لكتابه العزيز، وأنه قيض لها رجالا لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله.

وقد كان من فضل الله على أمة الإسلام أن خصها بكتابه العزيز، وتعهد سبحانه بحفظه، فحفظ الشريعة من خلاله، فله الحمد والفضل والمنة.

ولا غرابة أن نجد كل من نهل من معين كتاب الله العظيم حائزا على علم جم، قال تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ}، وقوله تعالى: {ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون} ، مبين بالعلم بالسنة النبوية لخير البرية سيدنا محمد عليه من الله صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، قال تعالى: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى}،  متبوعا بإجماع علماء الأمة، قال تعالى: {ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المومنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا}، مستنبطا من قبل العلماء الراسخين الربانيين، قال تعالى: {ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم}.

لذلك فقد ترك لنا علماء الشريعة من خلال الحقب الزمنية المتلاحقة تراثا زاخرا من العلوم والمعارف التي تستمد قوتها من الأصول الشرعية.

وقد كانت لعلماء المسلمين مناهج لجمع وضبط المرويات لم تكن لغيرهم ومن أهم علوم معرفة الرجال علم الجرح والتعديل، فقد قال محمد بن سيرين ومالك بن أنس وغيرهما من السلف رضوان الله عليهم : "هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم". 

وكانوا يدققون في الراوي والرواية والسند والمتن وحتى في اللقيا والمعاصرة، فلا يمكن أن نتكلم في التساهل والضعف والكذب إلا من جهة رد الأقوال بعد عرضها على قواعد الجرح والتعديل.

وليس من الحرص على مكانة السنة النبوية الشريفة في التشريع الإسلامي الطعن في كتب الحديث الشريف المشهود لها بالصحة والسلامة من الوضع  وهي كتب حازت القبول من قبل علماء الأمة سلفا وخلفا، ونالت الريادة العلمية في حفظ السنة النبوية الشريفة للأجيال اللاحقة وأجمع المسلمون على تصدرها.

ثم إن توجيه الاتهام وسهام النقد والتخطئة إلى الصحيح المتواتر من أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، يدخل في إطار هجمة شرسة عامة على كتب التراث الإسلامي ودور علماء الأمة في كتابته، ومحاولة نزع لبوس القيمة العلمية عنه والعبث بكل ثوابت الدين لتحقيق أهداف ومآرب تنحصر في اهتزاز قوة تمسك الأمة بتراثها وعلمائها.

لقد كان من شروط جمع الأحاديث النبوية الشريفة؛ المعرفة الواسعة بالحديث النبوي وأحوال رجاله من تعديل وتجريح، والخبرة التامّة بالأسانيد والأحوال، واشترط شروط خاصة دقيقة في رواية راوي الحديث، وهي أن يكون معاصراً لمن يروي عنه، وأن يسمع الحديث منه، أي أنه يشترط الرؤية والسماع معاً، هذا إلى جانب وجوب اتصاف الراوي بالثقة والعدالة والضبط. 

وقد لا يجد المتتبع عناء في فهم مكانة كتب السنة الصحيحة لدى علماء الأمة من السلف والخلف، وإن وجد مخالف لذلك عد من غير المنتسبين للعلم، ولا غرابة فمن جهل شيئا تمحضت عداوته له بسبب الجهل البسيط أو المركب.

وقد يختلط على البعض القدرة على تنزيل الأحكام على الواقع وإنتاج الفقه بلغة العصر ومراعاة المصلحة والمناسبة والحال واعتبار المآل مع المحافظة على الثوابت الدينية والتراث الإسلامي الممثل لعقيدة الأمة وأصالتها وهويتها الحضارية، ولا تعارض بين النصوص الشرعية والتطبيقات العملية للأحكام فالأصل ثابت والفرع في سماء الوقائع والأحداث متسم بالثبات والمرونة وتلك خصوصية المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.

وقد توارث حفظ التراث الأجيال المتلاحقة من الأمة، فمنهم من حاول تنزيل النصوص على الوقائع، ومنهم من وقف موقف الشارح المقلد، ومنهم من أخذ بطريق التحقيق والتدقيق ومنهم من سلك طريق تدبر المعاني والغوص في المضامين، ومنهم من سار على طريق التقليد المطلق دون إعمال لخصوصيات كل عصر، وهذا ما نجده ظاهرا في العصور المتأخرة من تاريخ الأمة التي بدأ فيها التراجع عن نهج التقدم العلمي، والسبق في ميدان المعرفة الذي سلكه سلفنا الصالح.

ومن هذه العصور عصرنا الحاضر الذي بدأت فيه العولمة الزاحفة، تلقي بظلالها على الأمم  والحضارات والعلوم المختلفة؛ لتحاول التغيير في الأسس والمبادئ الراسخة؛
لذا نجد الدارسين والباحثين يتخوفون من هذا المد الجديد، ويحاولون العودة إلى الأصول والمحافظة عليها، والتمسك بالموروث العلمي وهذا عين الصواب وجوهر الحق إن نتج عنه صناعة فقهية ذات تأصيل شرعي ومرونة في التطبيق، وقدرة على دفع الشبهات بمنهج علمي رصين؛ لا يسمح بالتعدي على خصوصية كل فن، وترك الباب مفتوحا أمامهم للتبصير والبيان بالحجة والبرهان.

إن الأمة التي لا ماضي لها لا مستقبل لها، فالحاضر امتداد للماضي كما أن المستقبل امتداد للحاضر، ولا يعني التشبث بالموروث دون تحقيقه وتنقيته من الشوائب وغربلته من ما يختلط به في عصور الضعف والوهن التخلي عن التراث الإسلامي الزاخر، وإنما المحافظة عليه بضوابط أهله، ولا توجد وسيلة لذلك أكثر كفاءة من مناهج العلماء المسلمين في التعامل مع التراث من المرويات والأخبار وكل المنقولات العلمية وضبط الفروع وتقعيدها وجمع ما تناثر منها(علم القراءات، علم مصطلح الحديث، الإسناد، الجرح والتعديل، القواعد الفقهية،الضوابط الفقهية،...).

وما تقدم يبين لنا فضل العلم والعلماء وتبجيلهم وصيانة مكانتهم عن الاستهزاء، وتبيان أن احترامهم من توقير الله جل جلاله، وأهمية المحافظة على كتب العلوم الشرعية التي تمثل نواة تراث الأمة.

فكتب العلماء لها مكانة سامية وهم أي العلماء تاج على رؤوس طلبة العلم، وتتمثل القيمة العلمية في الحديث عن فضل أهل العلم في الرد على ما يتعرض له علماء سلفنا من بعض الانتقاص من مكانتهم والطعن في بعض مؤلفاتهم، وهم أرفع قامة في العلم من الأدعياء، ويكفيهم شرفا قوله تعالى:{شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وألوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم}، وقوله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ، و يقول ابن كثير في تفسيره لقوله تعالى: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم}  "وهذه خصوصية عظيمة للعلماء في هذا المقام".

 وفي الموطإ عن إمام دار الهجرة إمامنا مالك رضي الله عنه: ((مالك، أنه بلغه أن لقمان الحكيم أوصى ابنه، فقال: يا بني جالس العلماء، وزاحمهم بركبتك، فإن الله يحيي القلوب بنور الحكمة، كما يحيي الأرض الميتة بوابل السماء)).

وعلم الوحي بوصفه دين يقوم على النقل والرواية بشروطها وقواعدها، وعلى السماع من أفواه الشيوخ من أهلها، وعلى السند المتصل عن العدول الثقات الضابطين، عن أمثالهم عدالة وضبطا، في سلسلة موصولة الحلقات إلى المنبع الصافي الذي استقى منه النقلة ما نقلوا. واستصفوا من لبابه ما استصفوا.

وثمة أنواع التراث المختلفة بعضها عن بعض؛ تراث يختص بالعلوم الشرعية وهو المقصود هنا، وثمة تراث فكري..

وأول ما ينصرف إليه الذهن عند الحديث عن التراث الإسلامي، تناول أصول التشريع؛ لأن جل التراث الإسلامي كان دراسة لهذه الأصول، أو محاولة فهم النصوص، أو سعيا لوضع علوم خادمة للكتاب العزيز  وخصوصا علم التفسير؛ بيان كلام الله المبين لألفاظ القرآن ومفهوماتها، وعلم مصطلح الحديث، وعلم الدراية والرواية وفقه الحديث الشريف الصحيح المنقول تواترا.

ومن التراث الإسلامي فتاوى العلماء منذ عهد التابعين إلى القرون المتأخرة، لأن التلقي عن النبي صلى الله عليه وسلم نوعين: نوع بوساطة ونوع بغير وساطة، وكان التلقي بلا وساطة حظ أصحابه الذين حازوا قصبات السباق، وكان التبليغ عنه صلى الله عليه وسلم من عين تبليغ ألفاظه وما جاء به وتبليغ معانيه، كان العلماء من أمته منحصرين في قسمين:حفاظ الحديث، الذين حفظوا على الأئمة معاقد الدين ومعاقله، وحموا من التغيير والتكدير موارده، القسم الثاني: فقهاء الإسلام، وعنوا بضبط الحلال والحرام.

والتركيز  على الإسناد وهذا مفهوم لمحورية دوره في ضبط نقل الأخبار والتحقق من صحتها، ولقد عقد الإمام مسلم في "صحيحه" في بيان أن الإسناد من الدين، وضمنه بعض أقوال العلماء في بيان منزلة الإسناد من الدين ومنها ما نقله ابن سيرين، قال:" إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم"، 
وعن عبد الله ابن المبارك:  "الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء".

ومن مظاهر ضبط النصوص والعناية بها ما قاله ابن حجر في شرحه لنخبة الفكر: " المخالفة في الحديث:إن كانت بتغيير حرف أو حروف مع بقاء صورة الخط في السياق؛ فإن كان ذلك بالنسبة إلى النقط فالمصحف، وإن كان بالنسبة للشكل فالمحرف قال: " ومعرفة التصحيف والتحريف من المهمات، وقد صنف في ذلك العسكري والدارقطني، وغيرهما".

وإذا نظرنا إلى مناهج العلماء في ضبط المرويات، والتشدد المنقول عنهم في القبول أو الرد أو الترك، وعلمنا ما كان الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه، ينفرد به فقد سلك سبيل التحقيق في المرويات، ووضع منهجا متفردا في نقد الأخبار، وأحوال الرجال، واتفقت كلمة النقاد على التسليم له بمنهجه المتفرد في انتقاء الرجال وانتقادهم، وفيما تفقه فيه، وفيما أفتى به، لتحقيق علم الإسناد.

تلك نقطة من بحر تاريخ تراثنا الإسلامي الزاخر بالشواهد على ضبط العلوم الشرعية، ووضع منهج قوي لتحقيق العلوم وتنقيح الفنون، وفتح أفق البحث العلمي الجاد؛ لأن الباحث إذا وجد القواعد المنظمة لنقل المعلومة من مصادرها موجودة بأسلوب متقن لا يتطرق إليه الخلل، سهل عليه نسبة القول إلى قائله، وأمكنه التفرغ لدراسة السياق التاريخي والمناسبة وفقه العصر وواجب الوقت، وليس له الطعن والرد  أو التشكيك، وإذا علم أن لكل علم أدواته سهل الرد إليها دون غيرها من المناهج غير العلمية، ولا تليق بمن يعتبر نفسه صاحب فكر "تنويري"..