المفتش محمدن الرباني لموقع الفكر: التقويم السلبي لواقع التعليم من الأمورالتي لا يكاد يختلف عليها اثنان

ما تقويكم لواقع التعليم في موريتانيا؟

محمدن بن الرباني: تقويم الواقع التربوي من الأمورالتي لا يكاد يختلف عليها اثنان فلو أنك فاتحت شخصا متواضع الثقافة ومنعدم التعليم لقال لك إننا نفتقد التعليم أو إن التعليم منهار، وهذه حقيقة مرة لكنها واقع لا يمكن أن نتنكر له.

فمنظومتنا التربوية تعاني من مشاكل حقيقية، هذه المشاكل صنعتها عوامل لعل من بينها الارتجال الذي طبع الإصلاحات التربوية التي عرفتها البلاد وكذلك التوظيف السياسي الذي دأبت عليه الأنظمة مما جعلها تتخذ إجراءات كثيرة غيرمدروسة فتضافرت هذه العوامل إلى أن وقع التعليم فيما هو فيه.

والخلل في التعليم يتجلى في عدة نواح منها المخرجات الضعيفة فتكاد تلقى الطالب الموريتاني وقد مر بجميع مراحل التعليم فإذا حادثته كان كل كلامه خطأ وإذا كتب كان كذلك وإذا اختبرته في مجال تخصصه كان كذلك.

كذلك من مظاهر أزمتنا التربوية انعدام أو ضعف البنى التحتية ،فلو أنك زرت أي منطقة حتى نواكشوط وقمت بزيارة لمؤسساتنا التعليمية سواء كانت ابتدائية أو إعدادية فإنك لن تعدم أن تصادف مؤسسة ساقطة الأبواب والنوافذ وسبورة مشوشة كثيرة الثقوب ومقاعد متهالكة وحائطا متهالكا قصيرا ،وهذا الضعف في البنى التحية يجعل المدرس يفتقد أي وسيط تربوي يمكن أن يعينه على الإيضاح والتوصيل.

وكذلك من مظاهر أزمة منظومتنا التربوية اختلال الخريطة المدرسية فالخريطة المدرسية عندنا ديس عليها منذ فترة، فأصبحت المدارس تفتح لأغراض سياسية وانتخابية لا علاقة لها بالأسس الفنية الموضوعية ،والمهم أن يكون السياسي أو النائب الفلاني أو الوجيه الفلاني استطاع أن يجلب مدرسة إلى هذا  التجمع أو ذاك التجمع ،وهذا التشتيت يجعل الوزارات المتعاقبة غير قادرة على تقديم التعليم المناسب.

ومن مظاهر اختلال العملية التربوية غياب المعلم النموذج والقدوة وكما تعلمون فإنه من البداهة كما يقول الناظم:

إن المعلم والطبيب كليهما                 لا ينصحان إذا هما لم يكرما

هذا إذا كان المعلم على أحسن  مستوى، فكيف به إذا كان خريج مؤسسات تأهيلية وتكوينية متهالكة يقضي فيها السنتين والثلاث دون أن تضيف إلى معارفه الأكاديمية بعدا يذكر، ودون أن تكسبه مهارات تربويةَ. وبالتالي فالمعلم والمدرس عموما في واقعنا اليوم هو أحد مخرجات التعليم وفي ذات الوقت خريج مؤسسات تكويني أولي عاجزة عن تكوينه تكوينا مناسبا وهناك عامل ثالث لا يقل  أهمية عن العاملين السابقين كما قيل:

ألقاه في اليم مكتوفا وقال له           إياك إياك أن تبتل بالماء

ملقى في ضباب وأمواج من المشاكل وفي واقع بالغ المادية وصعب التكاليف ويمنح راتبا متدنيا غاية التدني، وهذا ما يجعله أكثرارتباطا بأمور أخرى قد تجلب له دخلا إضافيا، يعينه على أعباء الحياة، يجعله أكثر ارتباطا بتلك الأنشطة من نشاط التدريس الذي يفترض أنه أسمى المناصب ويفترض أنه حقيقة هو البوابة والآلية المثلى لكل تقدم وتطور ولعله لا يعبر عن حاجة وواقع المدرس إلا قصيدة الدكتور التقي بن الشيخ والتي يقول فيها:

قالوا سنصلح من شؤم ومن دنس           تعليمنا فهو للأجيال كالقبس

قلنا لهم هذه والله حاجتنا                    كانت لنا حلما يجري مع النفس

لكنه مركب صعب وسالكه                  يرميه من شاء بالتهويس والفلس

و من تصدر للإصلاح يحسبه                أمرا بسيطا سيلفي الأمر غير بس

لو أن أول من مروا وآخرهم                 إنسا وجنا على "التكوين" أو "لنس" 

جمعتموهم وملأتم سماءهم                    يا قومنا حرسا أعييوا على الحرس

ولو جعلتم لكل منهم عسسا                   ما أدخلتهم لقسم خشية العســــــس

فللحياة وحاجات الحياة صدى                يصمهم صوته عن دقة الجرس

فالكف مملقة والحال مقلقة                   والناس مطرقة من شدة الكفس

وهذه حال مسعود وفاطمة                    وابْلالَ وأم المؤمنين وسي

فالمدرس في ظروف كهذه الظروف ليس فيها بنى تحتية وليس فيها محفز ضف إلى ذلك أنه منذ بدايات التسعينات أصبح المجتمع مجتمعا ماديا فمن لا يملك شيئا لا يساوي شيئا،وتضافرت هذه العوامل لتجعل المدرس أزمة من أزمات التعليم.

ومن مظاهر أزمات التعليم المضاربات في الكتاب المدرسي الذي أصبح ك"الكبريت" الأحمر الذي يقال إنه يذكر ولا يرى ،خاصة إذا تعلق الأمر بالمناطق الداخلية أو تعلق بضعيفي أو عديمي الدخل فإن أبناء هذه الفئات لا تجد الكتاب المعين.

هذه مظاهر ليست هي كل مظاهر أزمة التعليم وإنما هي بعضها فقط.

موقع الفكر: ما تقويمكم للإصلاحات التربوية التي قيم بها، وما العوامل التي أدت بها جميعا إلى الفشل؟

المفتش محمدن بن الرباني: فيما يتعلق بالإصلاحات التربوية التي عرفتها البلاد يمكن أن نقول ما يلي:

مع إدبار الاستعمار ولملمة أوراقه لم يشأ أن يخرج حتى يكرس ثقافته ،وحتى يضع يده على التعليم ليظل متمكنا من هذه المخرجات التي هي حقيقة صناعات البشر، ومعلوم أن من سيطرعلى التعليم سيطرعلى الأمة لأن التعليم هو أسلوب صناعة الإنسان ،وأداة تربيته لذلك جاءت السلطات الفرنسية في مرحلة الاستقلال الذاتي بإصلاح 1959 وكان نظاما  فرنسيا بامتياز لا يكاد يوجد فيه للعربية ذكر باستثناء نحو ساعتين من التربية الإسلامية ثم بعد الاستقلال، واستجابة للمطالب المتكررة التي يطرحها المواطنون خاصة الفئة التي تنتمي إلى العرب ،وهي الفئة الغالبة وافق البرلمان على إصلاح جديد وقد تضمن هذا الإصلاح الجديد زيادة طفيفة في ساعات التربية الإسلامية و اللغة العربية وعارضته النخبة الفرنكفونية، وكانت متمكنة في تلك الفترة وترتبت عليه أحداث سياسية معروفة أدت به إلى أن يبدأ التعامل مع مسألة اللغة ومسألة الإصلاح التربوي بقدر كبير من الحيطة والحذر، لكن ذلك لم يمنع من التقدم من جديد بإصلاح 1973 وبالمناسبة هو الإصلاح الوحيد الذي يمكن أن يصنف كإصلاح فعلي لأنه كانت له نظرة و رؤية  واستحدث مؤسسات مهمة كالمعهد التربوي وأيضا زاد في نسبة اللغة العربية في النظام التربوي. وإصلاح  1979 نظرا للمطالبات والمطالبات المضادة جاء بفكرتين إحداهما كانت سيئة وسلبية وأثرت على الوحدة الوطنية  تأثيرا عميقا، والثانية كانت إيجابية لأنها كانت تسعى إلى تهيئة اللغات الوطنية من أجل أن تكون قادرة على استيعاب المضامين التعليمية اللازمة ،وكانت المرحلة التي الأولى هي ست سنوات من أجل استكمال تطوير اللغات الوطنية، ولما جاء نظام ولد الطائع ألغى فكرة تطوير اللغات الوطنية وبقي النظام التعليمي نظاما مزدوجا بمعنى أن هناك من يدرس باللغة العربية  83% من مدروساته وهناك من يدرس باللغة الفرنسية 83 % من مدروساته، ونشأ جيلان جيل معرب وجيل مفرنس وكان الجيل المعرب هو الأكثر، لكنه تعرض لمؤامرة لأن التعليم والمعارف عربت ولكن الولوج إلى الإدارة والوظائف الإدارية ظلت مفرنسة  وبالتالي أصبح المتعلمون باللغة العربية محاصرين وشهاداتهم شهادات معطلة.

 ثم جاء إصلاح 1999م الذي رفع شعار توحيد النظام التربوي لأن هذه الازدواجية كانت خطرا على الوحدة الوطنية لكنه أخطأ من حيث أحسن فقد أحسن بتوحيد المنظومة التربوية ،وأخطأ إذ أتى بلغة أجنبية وإن كانت قد سادت البلاد منذ الاستقلال، فدرس بها العلوم العلمية المعاصرة.

وينبغي ألا نتغافل عن أن اللغة التي تدرس بها هذه العلوم ستظل هي اللغة الحية لأن أصحابها هم الذين يتولون الوظائف وينجحون في مختلف المسابقات، وهذه الإصلاحات كتب عليها أو على أغلبها الفشل لأنها ليست إصلاحات بالمعنى الصحيح، فالإصلاح هو ذلك الذي يكون نابعا من رؤية واستراتيجية توكل إلى الفنيين والخبراء وتستشار فيها القوى الحية ،سواء كانت قوى سياسية أو اجتماعية وبالتالي  فإن أي إصلاح هو تصورلدى حاكم مدني مستبد أوحاكم عسكري مستبد دون استشارة المجتمع ،ودون أخذ حاجياته وأخذ خصوصياته بالحسبان لايمكن اعتباره اصلاحا.

وذكر الرئيس المرحوم المختار بن داداه في مذكراته  أن الخطأ الأساسي الذي وقع في إصلاح 67 المعروف بإصلاح 66 أنه لم يشرح بما فيه الكفاية، فقدم معلبا دون أن يشرح للناس، ولم تقدم لهم الأهداف والمرامي منه، وبالتالي كانت ردة الفعل هي ما وقع  ونستفيد من هذا أن الأمورالمعلبة وخاصة إذا لم يعهد بها إلى الخبراء غالبا ما تفشل، وفي المثل الحساني أن من يريد أن يصنع "علافة لعر يجب أن يقيسه عليها" وينبغي أن يستشار الفاعلون السياسيون والفاعلون الاجتماعيون والمجتمع المدني في المواطن الذي نسعى إليه وأبرز آليات تكوين هذا المواطن ،وبالتالي فهذا من العوامل التي أدت إلى فشل هذه الإصلاحات ومن العوامل التي أدت إلى الفشل ،خاصة في إصلاحي 79 و 99 أنهما  في الغالب إصلاحان  سياسيان  يعني أن الهدف منهما  إما إسكات ضغط داخلي أو تناغم مع ضغط خارجي فإصلاح 79 كان الهدف منه إسكات الساحة الداخلية فمن يريد العربية يدرس باللغة العربية ومن يريد أن يدرس باللغة  الفرنسية يدرس بالفرنسية ،ومن الطبيعي أن هذا ليس نابعا من احتياجات تربوية وليس استجابة لتشخيص واقع موضوعي ثم جاء إصلاح 1999 في إطار إلقاء النظام الرسن إلى الغرب ،والتجاوب معه بما في ذلك العلاقة مع إسرائيل ،وتقليم أظافر الهوية بإضعاف اللغة العربية وهذه العوامل مجتمعة يمكن أن نختصرها في الارتجالية وهذه الارتجالية تتمثل في جملة أمور من أهمها  عدم اتخاذ الإجراءات المصاحبة.

  كيف لحكومة تفكر في أن تتقدم بإصلاح مثل إصلاح 1999  يقضي بأن تدرس الرياضيات والعلوم الطبيعية باللغة الفرنسية وإذ ذاك الأساتذة التابعون للوزارة أغلبهم إنما يستطيع تدريسها باللغة العربية ،ولم تتخذ أي إجراءات مصاحبة لا من حيث المراحل الانتقالية التمهيدية ولا من حيث التكوين الفاعل والسريع للأساتذة ،فضلا عن ذلك جوبه الإصلاح  برفض شعبي ورفضته النخبة ونذكر أنه في تلك  السنة وقع عشرات الأساتذة والمعلمين عريضة رفض وطلب مراجعة لهذا القانون وهذه العوامل لا بد أن تؤدي إلى فشل الإصلاح.