أرشيف مجلة المنار المصرية.. عناصر جديدة من محمد محمود ولد التلاميد التركزي الشنقيطي/ الإعلامي والباحث الموريتاني سيدي أحمد ولد الأمير

نشرت الشبكة الإلكترونية في السنوات الماضية أرشيف الكثير من المجلات العربية القديمة، ومن بين ذلك مجلة المنار المصرية، وكان ذلك أمرا مفيدا للمهتم بالثقافة الموريتانية؛ حيث عثرنا على الكثير من أخبار العالم اللغوي الشهير محمد محمود ولد التلاميد التركزي الشنقيطي مما لم يكن بين أيدينا. 
ومن المعلوم أن الكاتب اللبناني الشهير رشيد رضا أصدر العدد الأول من مجلته المنار في 15 مارس 1898م وكان ابن التلاميد التركزي الشنقيطي يومها مقيما بالقاهرة، وظل صدور هذه المجلة مستمرا حتى بعد وفاة رضا سنة 1935م. في أعداد هذه المجلة الأولى الكثير من أخبار ونشاط وأدب وعلم محمد محمود ولد التلاميد التركزي الشهير بالشيخ الشنقيطي. 
وسنقتصر هنا على أربعة مقتطفات من هذه المجلة الذائعة الصيت:
الأول والثاني عن علاقة ابن التلاميذ بالإمام محمد عبده وبالكاتب رشيد رضا. 
والثالث والرابع عن علاقة ابن التلاميد بالشناقطة وبعض أخبار أسرته بالمشرق.

ابن التلاميد.. علاقة وطيدة بمحمد عبده وبرشيد رضا:
توطدت العلاقة بين ابن التلاميد وبين النخبة المصرية وخصوصا مفتي الديار المصرية الإمام محمد عبده وتلميذه رشيد رضا، وقد أكرم الرجلان الشيخ الشنقيطي وتصدر مجالسهما العامرة، وقد وجدنا الكثير من ذلك في أرشيف مجلة المنار. 

ومن ذلك ما يقوله رشيد رضا في العدد 25 من مجلة المنار الصادر يوم الثلاثاء 6 سبتمبر 1898م من أن الأستاذ الإمام محمد عبده لما ألف رسالة التوحيد أعطاها لابن التلاميد الشنقيطي ليقرأها قراءة تصحيح، يقول رشيد رضا: "قرأ الرسالة العلامة المحدث الذي انتهت إليه رئاسة علوم اللغة والحديث في هذه الديار، لا سيما علم الرواية للحديث الشريف ولأشعار العرب والمخضرمين ألا وهو الأستاذ الفاضل الشيخ محمد محمود التركزي الشنقيطي، فتوقف في بعض حروف وفي بعض مواضيع منها، فولى شطر بيت الأستاذ المؤلف حتى إذا ما جاءه طلب منه أن يقرأ الرسالة فقرآها في يومين وتذاكرا فيما توقف فيه، فأزال له الأستاذ بعض ما أشكل فيه، واعترف له بالإصابة في بعض ما انتقده، وانتهى الأمر بشكر كل منهما للآخر.
ومن حسن أخلاق الأستاذ المؤلف واعترافه بالحق وشكره عليه أنه قص هذه القصة على تلامذته في الجامع الأزهر، وأثنى لهم على أخلاق الشنقيطي وعلمه ودينه، وقال هذه هي مزايا العلماء.
أما الانتقاد الذي اعترف فيه المؤلف بالإصابة فهو نحو قوله: "دعيت للتدريس" وكان ينبغي أن يقول: "دعيت إلى التدريس"، فسبق القلم.
هذا من حيث اللفظ وأما من حيث المعنى فمسألة البحث في خلق القرآن، انتقد الشنقيطي بأن فيها مخالفة لما التزمه المؤلف سلوكه في العقائد مسلك السلف، قال: والسلف لم يبحثوا في هذه المسألة، فاعترف له المؤلف بذلك، وقال إنني خالفت في هذه المسألة بخصوصها الشرطَ لأهميتها واشتباه كثير من الناس فيها.

لم يكتف الأستاذ الشنقيطي بالشكر للمؤلف في مشهده وعلى سمعه على هذا الأثر الجليل بل قرظه بقصيدة غراء ذات حكم ونصائح، وجاء إلى الرواق العباسي في الجامع الأزهر الشريف، ولما حشر العلماء والطلاب لسماع درس الأستاذ المؤلف استأذن منه بقراءة القصيدة عليهم، وصعد كرسي الدرس وافتتح الكلام بالبسملة والحمدلة والصلاة والسلام على خير الأنام، وأنشد القصيدة والناس مصيخون والأستاذ المؤلف بينهم وهي:
ألا إن خير الناس من كان قصدُهُ
لقد مات دين الحق وانحل عِقْده
فذكَّر من يخشى بذا الدين وحدَه
ونشَّر للإسلام من بعد طيه
ونوه بالإسلام تنويهَ ماجد
وجدد للآنام توحيدَ ربهم
        لنفع الورى أو كان في الضر زهدُهُ
فأحياه بالذكرى "محمدُ عبدُهُ"
ومن كان لا يخشى وبالله أيْدُهُ
لواءً على الأعلام يخفق بَنْدُهُ
بتنويهه بالدين يزداد مجده
براهينه المهداة إذ طال عهده

إلى أن يقول مخاطبا محمد عبده:
أراك نصرت الدين بالحق حِسْبَةً
وننصر مولانا ونعلم أنه
وينصرنا المولى ويصدُق وعدُه
فدونك نصحًا مخلصًا واعْلَمْ أنه
واحمد رب الناس سرًّا وجهرة
        إليها الفتى المقدام يشتد شَدُّهُ
هو الله فقر العبد منه ووجده
وأصدقُ وعدِ النصرِ لا شك وعدُه
هو الدين نصح يا (محمد عبده)
على كل حال يلزم الناس حمده

وبخصوص العلاقة الوطيدة بين ابن التلاميد وبين رشيد رضا جاء في العدد 22 من مجلة المنار الصادر بتاريخ 12 أغسطس 1899م تهنئة أدبية رائعة كتبها ابن التلاميد في حق صديقه رشيد رضا ونشرتها مجلته المنار، ونصها:
تفضل علينا إمام لغة العرب، ومرجع أهل العلم والأدب، الأستاذ محمد محمود الشنقيطي بقصيدة بدوية في أسلوبها، إرشادية في موضوعها، يقرظ بها (المنار) فنشرناها خلافًا لعادتنا لأننا نرى رضاء مثل هذا الأستاذ عن عملنا من موجبات الفخر لنا والشكر له، وما كان لنا أن نمنعه حق شكرنا له؛ لأن فيه فخرًا بشكره لنا (وهذه هي):
ألا قف بالديار وقوفَ دارِ
وغادر ظلمه ما دمت حيًّا
وعظم قدره سرًّا وجهرًا
        حقوقَ الجار مُحْتَرَمُ الجوار
وبادر نصرَه حقَّ البدار
تحُز فخر الملا يوم الفخار

إلى أن يقول مفتخرا ببحوثه الجليلة:
غذاء الروح علمي طولَ عمري
أؤم العُرْبَ ثم العُجْمَ فردًا
وطبع الحر منعُ الجار دأبًا
        أجوب له البحارَ مَعَ البراري
لضبط العلم ليلي مَعْ نهاري
وردعُ تُحُوتِ أوغادٍ شِرار

إلى آخر القصيدة الموجودة بحوزتنا.

دعوة ابن التلاميد الشناقطة إلى الاستفادة من مكتبته الغنية:
ترك ابن التلاميد ما يزيد على ألفي مخطوط من نوادر المخطوطات العربية، ولإدراكه بأهميتها فإنه كتب عليها جميعا أنها وقف على عصبته من أهله ثم على الشناقطة من بعدهم، وظل إحساسه بأهمية وندرة ما استطاع جمعه من أمهات الكتب ونوادر المخطوطات مصاحبا له حتى توفي رحمه الله، ويبدو أنه كان يريد أن يأتيه من الشناقطة من يأخذ منه تلك الكتب حتى لا تبقى نهبا لغيرهم كما حصل.
جاء في المجلد 3 من مجلة المنار الصادر بتاريخ 1 إبريل 1900م ما يلي: إن علامة اللغة والأدب الأستاذ الشيخ محمد محمود بن التلاميد التركزي الشنقيطي الشهير قد جمع في رحلاته وأسفاره في الأقطار كتبًا نفيسة، منها ما هو نادر الوجود، وقد وقفها على عامة أهل العلم في بلاده شنقيط. ونظم في هذه الأيام قصيدة غراء ينافس فيها بهذه الكتب، ويحض فتى من قومه على الرحلة إليه لكسب العلم وأخذ هذه الكتب قبل وفاته، وصدَّرها بالحماسة لتعرض بعض من يدعي العلم، وقد طبعت وأهديت إلينا نسخة منها فرأينا أن ننشرها بشرحها المفيد وهي:
يا من تعرض لي بالعلم والأدب
عُض الأنامل من غيظ ومت كمدًا
أنا الذي لا أزال الدهر ذا طرب
لضبط علم وكتب أبتغي بهما
أنا الذي لا أزال الدهر ذا شغف
أنا الذي لا أزال الدهر ذا فرح
تجول بي همتى في الأرض مجتهدًا
تسرني غربتي في الناس منفردًا
        وَهَبَّ يسألني عن مقتضى حسبي
وكلْ جنى الجهل واشرب قهوة الغضب
سرًّا وجهرًا لتسياري ومضطربي
وجهَ الإله وفوزي بعد منقلبي
بنقديَ الكتبَ أبدي خافِيَ الكذب
بما أنَمِّيهِ من علمي ومن كتبي
في جمعها من بلاد العُجْمِ والعَرَب
لكسبها لا لكسب المال والنشب

وفي هذه القصيدة يستحث ابن التلاميذ أبناء بلاد شنقيط على الالتحاق به للاستفادة من المكتبة الكبيرة التي جمعها وأن يحذوا حذو أخيه الأمين الذي رحل من بلاد شنقيط والتحق به في المشرق وبقي معه يطارحه مسائل العلم حتى توفي في المدينة المنورة، وبعد ذلك رحل ابن التلاميد إلى القاهرة:
فدونكم معشري كتبًا مهذبة
 كفيتكم جمعها مستبشرًا جذلاً
يود ذو العلم والفهم الأصيل قوى
يحوي معانقها طول الزمان غنى
وحلو طعم معانيها على ظمأ
قد قيدتني بأرض غير أرضكم
وسركم سَنُّكم إبلاً مؤبلة
أليس منكم فتى بالرشد متصف
يطوي المفاوز قد ضمت جوانحه
حتى ينيخ ببابي غير مكترث
        من حسن ما قد حوت لا ينقضي عجبي
بشق نفسي بالإيغال في الطلب
تصونها فيه بين اللحم والعصب
يغني عن الفضة البيضاء والذهب
أحلى من البَرَدِ الممزوج بالضَّرَبِ
تقييد عانٍ بلا كبلٍ ولا سبب
سَنَّ المعيديِّ في السعدان والربب
يفري الفريّ ويأتي أعجب العجب
قلب السُّلَيْكِ عدا في الدرع واليَلَبِ
لما يلاقيه من هول ومن نصب

ثم يتحدث ابن التلاميد عن أخيه الأمين الذي سار ليله ونهاره من موريتانيا حتى وصل المشرق وجلس زما مع أخيه الشيخ محمد محمود:
فعلَ الأمين أخي صنوى الذي سبقت
حثَّ النجائبَّ لا يلوي على أحد
جاب البراريَ ثم البحرَ منصلتًا
حتى أناخ لدى البيت الحرام لدي
قضى المناسك حجا عمرة تفثًا
قفاهما حججًا تقتافها عمر
فقرت العين بالجمع الصحيح به
وطابت أنفسنا مستمتعين بذا
غذاؤنا العلم صرفًا لا مزاج له
عشنا معا عيشة في (طيبة) رغدًا
وسرت منها إلى مصر البلاد وقد
        له العناية أنضى العيس في طلبي
منكم يثبطه عن نيله رُتبي
على ركائب لا تخشى وجى النقب
فحاز ما يبتغي من مرتضى الأرب
مناسكًا هن حقًّا أصعب القرب
في سعيها راحة تنسي أذى التعب
وجد في العلم كل الجد بالأدب
ونال مني يقين العلم من كثب
من الأغاليط والتمويه والشغب
وفي البقيع ثوى في أطيب الترب
صارت لي الآن ملقى الرحل والقتب

وفي العدد الصادر في أغسطس 1902 نجد مجلة المنار تصدر تعزية لابن التلاميد بعد وفاة ابنه الوحيد في حياته رحم الله الجميع، ونص التعزية:
نعزي إمام الأدب، وعلامة لغة العرب الأستاذ المحدث الشيخ محمد محمود الشنقيطي بولده الوحيد الذي فقده عن نحو سنة ونصف جعله الله فرطًا له وعوضه خيرًا. وأجدر بهذا الأستاذ أن يتمثل بقول الشاعر:
يقولون إن المرء يحيى بنسله
فقلت لهم: نسلي بدائع حكمتي
        وليس له ذكر إذا لم يكن نسل
فإن لم يكن نسل فإنا بها نسلو

خاتمة:
هذه مقتطفات انتقيناها من نصوص كثيرة وردت في أرشيف مجلة المنار المصرية الصادرة نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وتتعلق بعالم بلاد شنقيط ولغويها الشهير محمد محمود بن التلاميد التركزي الشنقيطي، أردنا منها تسليط الضوء على عناصر من ترجمة هذا اللغوي الفذ، لم تكن متاحة من قبل، وقد وضعنا اليد على أرشيف مجلات أخرى وفيها هي أيضا بعض الأمور المتعلقة ببعض أعيان وأعلام بلاد شنقيط.