عروة بن أذينة أديب الفقهاء والنساك/ الدكتور إبراهيم محمد الأمين"الكلي"

في أخبار السلف الصالح من العلماء والأدباء عِبَرٌ وثمرات صالحة، تهذّب النفوس وتثبّت القلوب، وترشد في مسارات الحياة...
وفي هذه العجالة أود أن أقدم نموذجا رائعا ومثالا فريدا لمحدث فقيه ناسك اشتغل بالأدب فتغزل وأجاد، ومدح فأحسن، وقال في الحكمة والحماسة والغزل.. فأبدع، إنه الإمام الناسك المحدث الأديب الشاعر: عروة بن أذينة، ولعلنا نستخرج دررا من أخباره الشائقة، ونبرز حللا من أشعاره الرائقة.

لمحة عن نشأته:

هو عروة بن أذينة بن الحارث بن مالك الليثي، كنيته: أبو عامر، نشأ بالمدينة المشرَّفة حيث نور النبوة الساطع، وهدي الوحي المنير، فأدرك علماء الصحابة، وحضر مجالسهم متعلما ومستفتيا، فمزج علمه الأصيل وتقواه برقَّة أهل الحجاز وبراءتهم، فبرز شعره من بين علم أصيل وطبع رفيع جميلا حلو المذاق، فكان كما وصفه الآمدي: "عالما ناسكا شاعرا حاذقا".

منزلته العلمية:

كان عروة من فقهاء التابعين ومحدثيهم، روى عن ابن عمر وأبي ثعلبة وكان حجة أمينا؛ روى عنه مالك في الموطإ وعبيد الله بن عمر والحسين بن خازم المعافري، قال عنه ابن قتيبة: "كان شريفا ثبتا يحمل عنه الحديث"، وقال الذهبي: "فأما عروة بن أذينة عن ابن عمر وأبي ثعلبة فصدوق روى عنه مالك"، ووصفه الصفدي بقوله: "كان من أعيان العلماء وكبار الصالحين".                            

وهذا –رحمك الله– كلام أئمة الجرح والتعديل وعلماء التاريخ العارفين بمكانة الرجال ممّن لا يلقون الأوصاف جزافا.

ورعه وزهده:

اشتهر ابن أذينة بالزهد والتنسك اشتهارَه بالعلم والأدب، ووصفه بذلك عدد من الذين ترجموا له، ابن عساكر، قال: "وكان من العباد النساك"، وعُدَّ في ذلك مضرِبَ المثل، فهذا ابن بسّام في حديثه عن أديب الأندلس ابن خفاّجة يقول: "إلا أنه قد نسك اليوم نسك ابن أذينة، وأغضى عن إرسال نظره في أعقاب الهوى عينه".

وله في الترغيب عبارات مفيدة، وإشارات لطيفة، منها: أنه كان إذا نام الناس بالبصرة خرج فنادى في سككها يا أهل البصرة الصلاة الصلاة، ثم يتلو {أَفَأَمِنَ أَهْلُالْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ}، ويقول: "عجبت لمن علم أنه يموت كيف لا يموت"، ووصفه غير واحد بأنه من كبار الصالحين والنساك.

شعره وأدبه:

وهنا مربط الفرس في حديثنا؛ فابن أذينة قامة شعرية سامقة، عُدّ من فحول الشعراء، وأعيان الأدباء، وكان على زهده صاحب ذوق عال، ولغة مليحة، يتغزل فتخاله صريع غوان أثخنته سهام العشق، وأبلته ليالي الهجر، وتسمع شعره في الحماسة والفخر وكأن عنترة أعاره لسانه، فكانت أشعاره رائقة بديعة، واسمع قولته:

إن التي زعمت فؤادك ملها      
خلقت هواك كما خلقت هوى لها                              فبك الذي زعمت بها وكلاكما                
يبدي لصاحبه الصبابة كلها                       فلعمرها لو كان حبي تحتها                         
يوما وقد عثرت إذا لأقلها                   
ولعمرها لو كان حبي فوقها                          
يوما وقد ضحيت إذا لأظلها              
بيضاء باكرها النعيم فصاغها                   بلـــــباقــــة فأدقها وأجلها                           
لمّا عرضت مسلما لي حاجة                     
أخشى صعوبتها وأرجو ذلها                 
ردَّت تحيتنا فقلت لصاحبي                               
ما كان أكثرَها لنا وأقلَّها               
فدنى وقال لعلها معذورة                             
من أجل رِقبَتها فقلت لعلَّها                

يروي ابن عساكر عن عروة بن عبد الله بن عروة بن الزبير قال: "كان ابن أذينة نازلا مع أبي في قصر عروة بالعقيق فسمعته ينشد لنفسه: إن التي زعمت..الأبيات، قال فجاءني أبو السائب المخزومي يوما بالعقيق فألفاني في مجلس فسلَّم وجلس إليّ، فقلت له بعد الترحيب به: ألك حاجة؟ قال: وكما تكون الحاجة أبيات لعروة بن أذينة، بلغني أنك سمعتها، فأنشده إياها فقال: ما يروي هذه والله إلا أهل المعرفة، هذا والله الصادق الود الدائم العهد، لا الهذلي الذي يقول:                                                 إن كان أهلك يمنعونك رغبة              
عني فأهلي بي أضن وأرغب

قال عروة: فأمرت بطعام فقدمته له، فقام، وقال: ما كنت لأخلط محبتي لها وأخذي إياها.

 
ومن رقيق غزله :

إذا وجدت أوار الحب في كبدي          
وقفت نحو سقاء القوم أبترد                        
هبني بردت ببرد الماء ظاهره                  
فمن لنار على الأحشاء تتقد                  

وقوله:

يانظرة ليَ ضرت يوم ذي سلم                           حتى متى لي هذا الضر في نظري
قالت -وأبثثتها سري فبحت به-                        قد كنت عندي تحب الستر فاستتري 
ألست تبصر من حولي فقلت لها                       غطى هواك وما ألقى على بصري  

ويروي الخطيب في تاريخ بغداد وابن عساكر في تاريخ دمشق أن سكينة رضي الله عنها مرت على ابن أذينة، فقالت: يا أبا عامر أنت الذي تقول: يا نظرة لي ضرت ..إلخ قال: نعم، قالت وأشارت إلى جواريها هن حرائر إن كان هذا خرج من قلب سليم، تشير إلى ما تفيض به الأبيات من شوق وصبابة.

ومن بديع شعره في الحماسة:

لقد علمت – وما الإشراف من خلقي         
أن الذي هو رزقي سوف ياتيني                
أسعى إليه فيعيـيـــــــني تطــــــــــلبه                 ولو جلست أتاني لا يعييـــــــني      
وما اشتريت بمالي قط محـــــــمدة                       إلا تيقنت أني غير مغبــــــــــون   
ولا دعيت إلى مجد ولا كـــــــــــرم                    
إلا أجبت إليـــــــه من ينــــــــاديــني

ولهذه الأبيات -أيضا– قصة مشهورة، مذكورة في أمهات كتب الأدب والتاريخ كالأغاني وتاريخ دمشق وغيرهما.. وخلاصتها: أن عروة جاء إلى الرصافة في ركب وافدين على الخليفة هشام بن عبد الملك، فلما دخل ابن أذينة على هشام، قال له: أنت الذي تقول: "ولو جلست أتاني لا يعنيني"؟ ما أراك إلا سعيت له قد جئت من الحجاز إلى الشام في طلب الرزق، فقال عروة: لقد وعظت يا أمير المؤمنين فبالغت في الوعظ، وأذكرتني ما أنسانيه الدهر، ولقد جئت وأنا أعلم أن ذاك كذلك، ثم خرج لا يلوي على شيء وامتطى راحلته صوب المدينة راجعا من حيث أتى، فلما افتقده الخليفة سأل عنه وأتبعه بجائزته، وأضعف له ما أعطى واحدا من أصحابه، وكتب له فريضتين، ثم جلس عروة وأقسم بالله لا يسأل أحدا حاجة حتى يلقى الله، فكان ربما سقط سوطه فنزل عن فرسه ليأخذه ولا يسأل أحدا أن يناوله إياه.

ومن حكمه السائرة :

نراع إذا الحوادث قابلتنا                       
ويفزعنا بكاء الباكيات                    
كروعة ثــلة لمغار ذئـــب                     
فلما غاب عادت راتعات

وله يطمئن من يخافون هجوه ويهدد من يتطاولون على جنابه:

نبئت أن رجالا خاف بعضهم                     
شتمي وما كنت للأقوام شتاما            
فإن يكونوا براء لا تطف بهم                       
مني شكاة ولا أسمعهم ذاما        
وإن يحينوا أقل قولا له أثــــــر                       
باق يعني قراطيسا وأقلاما              

لقد عاش عروة عمرا مديدا، عرف خلاله الأمويين ولحق العباسيين بعد سن عالية -حسب تعبير ابن عساكر- وترك أثرا صالحا في الأدب والزهد؛ فكان بحق أديب الفقهاء والنساك.