محمد فال بن بلال في لقاء مع موقع الفكر/ الكادحين تجدهم متفوقين ومتميزين فيما يقومون به؛ لأنهم أخذوا من تلك المدرسة أساسا صلبا ومنهجا قويا

 

في إطار مواكبة موقع الفكر لمجريات الساحة الوطنية، وسعيا منه إلى إطلاع المتابعين الكرام على تفاصيل الأحداث، بتحليل متوازن، ونقاش متبصر، نلتقي اليوم مع أحد أبرز السياسيين، ممن خبروا دروب السياسة- وزيرا للخارجية- وعايشوا تحدياتها في حقبة عانت فيها الدبلوماسية الموريتانية بعض الصعوبات،

نتابع معه اليوم لنستجلي من خلاله ما وراء الخبر... في لقاء شامل يتناول بعض القضايا المتعلقة بالشأن الموريتاني في المرحلة التي واكبها، والظروف التي تسلم فيها وزارةالخارجية،، كما يتناول اللقاء الأدوار التي تضطلع بها في اللجنة المستقلة للانتخابات، وكيف واجه بعزم واصرار لكمات المعارضة والنظام معا وماوضعوه من عراقيل أمام اللجنة وأمام عملها، وفي الشأن الوطني يتناول ضيفنا الحياة السياسية وتقييمه للمعارضة وموقفه من مقاطعة الانتخابات، وسنقتصر في هذا الجزء من المقابلة على موضوع حركة الكادحين والأدوار التي اضطلع بها ضيفنا الوزير السابق محمدفال بن بلال،

فأهلا وسهلا بضيفنا الكبير الوزير

موقع الفكر: أين ومتى، انتسبتم لحركة الكادحين؟

محمد فال بن بلال: انتسبت لحركة الكادحين في العام 1970م، حينها كنت بدكار وتضافرت عوامل عدة لدخولي في هذه الحركة، فالعامل الأول هو أنني كنت في نفس الغرفة في الجامعة مع سيدي محمد بن سميدع رحمه الله فأنا وهو نجحنا معا في الباكلوريا في نفس السنة، وسكنا معا حتى يناير من العام 1970م، فتوفي رحمه الله، ومعاشرته ومساكنته في الجامعة كان لهما دور كبير في انتمائي لحركة الكادحين.

 لم أنضم إلى الحركة حياته ولكن إعجابي به وتقديري له وملاحظة ما يتميز به من إخلاص وعمل وجهود أثر في نفسي وتعلمت منه واستفدت منه، وكتبت كثيرا عنه في مذكراتي، والعامل الثاني: هو أنهم ، أعني الكادحين، أقاموا مؤتمرا لمنظمة الطلاب وحملوني مسؤولية في مكتبهم دون أن أنضم إليهم مما جرني وجذبني شيئا فشيئا، فقد كان ذلك بمثابة ملاطفة ومغازلة لي أن جعلوني أمام مسؤولية فاكتسبوني بهذه الطريقة؛ وبالتالي دخلت معهم، والناس –كما تعلم– عندهم "أن الحر فيما مشى"، عندما تدخل في حركة وحزب يكون التحدي الأكبر أمامك هو الوصول إلى القمة.

 

موقع الفكر: هل كانت حركة الكادحين تؤطركم سياسيا؟

محمد فال بن بلال: طبعا، فأنا تم تأطيري سياسيا؛ لأنني وصلت فيهم إلى أن انتدبوني لأعلى سلطة فيهم وهي اللجنة المركزية، فطريقة الاكتتاب أو الدخول في حركة الكادحين.

 أولا كان عن طريق حلقات المناصرين فقط، كأن يكتشفوا شخصا أو أشخاصا مناصرين لهم أو مهتمين بهم فيعين عليهم مؤطر يقوم بتأطير خلية من المناصرين يمرون بمائة مرحلة من التدريب والتكوين والتأهيل ثم بعد ذلك يتم اقتراح المناصر من قبل عضوين، وعندما يتم اقتراحه من عضوين في الحركة وتتم تزكيته من السلطة الأعلى بالحركة يصير عضوا، وبالتالي المناصرون كثر ولكن الأعضاء قليلون جدا، ومرتبتهم واحدة، مع وجود اختلاف في درجات الهيئات.

 

موقع الفكر: هل كانت المقررات مكتوبة أم ارتجالية؟ وما أهم المواضيع التي يتلقاها العضو؟

محمد فال بن بلال: كان هناك مزيج بين ما هو مكتوب وما هو شفهي، أما بالنسبة لما كان يتلقاه الأعضاء فهناك فكر، وهناك جوانب عملية ممارساتية كالتحريض والدعاية والصبر والتحمل وصفات المناضل والطبائع التي يجب أن يُتحلى بها .. الخ. أي كانت هناك أمور أخلاقية وخلقية وفكرية وعملية.

 

موقع الفكر: هل كنتم تؤطّرون على القضايا الأمنية؟

محمد فال بن بلال: كنا نتلقى دروسا في الأمور الأمنية بعد ذلك، فعندما تكون مرشحا لإدارة هيئة قيادية تحصل على تكوين خاص حول أساليب القيادة، وأساليب الإدارة، وأساليب التنظيم، ونفسيات الناس .. الخ.

 وإذا كنت تتجه نحو الصحافة تحصل على تكوين خاص أيضا في ذلك المجال، وأما ما تحدثت عنه من الناحية الأمنية فيتولاه أصحاب المهام الخاصة ويتم تكوينهم على ذلك، ولهم أيضا معايير لا يمكن للكل أن يكتتب فيها فهناك معايير خاصة جدا جدا للدخول إلى خلايا المهمات الخاصة .. الخ.

 

موقع الفكر: هل كان من بين الحركة من هو مصاب بأمراض تنظيمية كالتسريب؟

محمد فال بن بلال: لا، ذلك قليل إن وجد أصلا، فالحركة لم تخترق أبدا، ومن الصعب أن يكون عضو في حزب الكادحين غير صلب و قوي الإيمان بالقضية؛ لأنهم يمرون بتصفيات كبيرة في إطار المرور بمرحلتي المناصرة والتدريب.

 

موقع الفكر: هل صحيح أن سيدي محمد سميدع قتله المختار بن داداه؟

محمد فال بن بلال: لا لا، كل ما قيل في ذلك افتراء.. ليست للمختار أي علاقة بموت سيدي محمدسميدع، ولم يكن مسجونا، بل توفى بسبب المرض.

 إنه كان يبذل من الطاقة ما لا يطيق جسمه، وكان يعمل الليل والنهار كأنه ماكنة تتحرك باستمرار، وكان قليل المذاق زاهدا في كل شيء، وتم تشخيص مرضه على أنه مصاب بداء في الكبد، وأمضى في المرض عاما أو أكثر من العام قبل وفاته في 7 يناير 1970.

 

موقع الفكر: هل تم سجنكم في فترة المختار بن داداه؟

 محمد فال بن بلال: لا، كنت أعيش في ظل السرية بإشراف و تأطيرو حماية من خلايا المهمات الخاصة في الحزب لمدة سنتين تقريبا.

 

موقع الفكر: كيف تصفون وضعية حقوق الإنسان في فترة المختار بن داداه؟

محمد فال بن بلال: ما أعلمه أنه كان يواجه الحركات والأحزاب و المعارضة على ضوء محاكمة، والتعذيب كان قليلا ولم ننع في تلك الفترة أي شخص توفي تحت التعذيب أو داخل زنزانات الشرطة، كما حدث بعد ذلك، فكل الإجراءات المتخذة ضد المعارضين كانت تستند إلى قانون، وسواء كان القانون جائرا أم غير جائر، الأهم أن كل الإجراءات مستندها القانون.

 

موقع الفكر: كيف تصفون  أيام المحنة التي عيشم في تلك الفترة؟

محمد فال بن بلال: كل ما كان لدى الواحد منا من أحلام هو إتقان مهامه و القيام بمسؤولياته على أكمل وجه، فقد وصلنا إلى درجة عجيبة من القناعة والاقتناع بما كنا نقوم به، جعلتنا نتعلق بقناعاتنا تعلقنا بآبائنا أو أشد؛ ولذلك أنا أتعجب الآن حين أرى بعض الشباب همهم الوحيد الحصول على سيارة وأموال.

 وفي تلك الفترة لم نكن نفكر في أي شيء من هذا وأذكر أنني في مدينة "لكوارب" كنت مختفيا عند أسرة  من أولاد بنيوك، وكان والدهم يسمى جدو بن البساتي رحمه الله  وكان يملك "شاريت" و"حرث" على شاطئ النهر، أتيتهم أولا بحجة أنني سأدرس أبناءهم القرآن، وفعلا أمضيت فترة أعلم أولادهم القرآن، وأحيانا يأتيني زائر من الحركة أو الحزب أقول لهم إنه من الأهل، وبعد ستة أشهر أصبحت فردا من أفراد الأسرة وبدأت شيئا فشيئا أعرفهم بنفسي وقضيت معهم سنة، وكنت حينها أستعمل اسما مستعارا وهو "الصبار"، وأصبحت بمثابة ابن لهم  ومازالت إلى الآن تربطني بهم تلك العلاقة، وبعد ذلك عرفتهم بنفسي، وحولنا الصالون في منزلهم ب"دربل" إلى مدرسة مكتملة الأركان. وجهزها الشباب بمقاعد وطاولات مسروقة من الإعدادية؛ لأن المدرسة كان لا بد أن تتوفر شكلا ومضمونا، وأتينا بسبورة، ومقاعد، وطاولات، وأصبح الصالون يشبه أي فصل من فصول الإعدادية، وربما يكون هذا دليل على ضعف الجهاز الأمني، ولكنه دليل أيضا على قوة الحركة، وكنا قد غطينا كل القاعة بقماش أسود، فكانت معتمة  حتى أنك في النهار تحتاج إشعال الإنارة كي تتمكن من رؤية الأشياء، ويستحيل رؤية ما بداخلها من الخارج. وبعد أن أمضيت عاما كاملا مع أسرة أهل جدو عدت إلى نواكشوط واختبأت مع القائد محمدن بن اشدو في خيمة قرب مركز الكهرباء في عرفات، وكانت الأسرة التي اختبأنا عندها أسرة من الكادحين،؛ والدهم يمتلك بعض الماعز،  وأمهم "عندها طابلة" (تمارس نشاطا تجاريا صغيرا)، وكانت الحياة كأنها طبيعة ونحن في داخل المنزل.

 

موقع الفكر: هل كانت الحركة تؤمن المكان الذي تسكنون فيه؟

محمد فال بن بلال: نعم، كان عند الحركة حراس، وكما قلت لكم هناك هيئة خاصة للمهمات الخاصة، كالحراسة، والتوزيع، والأسرار، واللوجستيك، والإنفاق و التموين، ونحن أنفسنا لا نعرف منهم إلا من كان لا بد لنا من معرفته، وهؤلاء أصحاب المهمات الخاصة لهم برامجهم وخططهم التي لا يطلع عليها غيرهم. فهم يعلمون أن هناك مكانا محروسا ويقومون بدوريات و توفير الرقابة اللازمة لضمان أمن القادة، ولم يعتقل من الحركة إلا الأشخاص المعروفون في النضال العلني مثل بدر الدين رحمه الله، ومحمدو الناجي وغيرهما ممن كانوا مسخرين للعمل الجماهيري المفتوح، وأمضينا مع الأسرة التي في نواكشوط أيضا قرابة سنة، وبعد ذلك حدث العفو عام 1975م، وجرى في العام نفسه نقاش كبير ومراجعة عميقة في داخل الحزب بين تيار الحوار و تيار الرفض، فبعض أعضاء الحزب بقي على ما كان عليه، وبعضهم أسس ما عرف بالميثاقيين والحوار مع المختار، والبعض الآخر – الذين كنت من بينهم – ذهب في حال سبيله.

 

موقع الفكر: ماذا بقي الآن من حركة الكادحين؟

 محمد فال بن بلال: بقيت منها أخلاق و مناهج و سلوكيات و روابط عاطفية بين روادها، فهناك أمور كثيرة يتقاسمها أعضاء الحركة منها النجابة، و الشطارة والتفوق في المدارس و في العمل، بمعنى أنك عندما تنظر إلى كوادر البلد ستجد من بينهم الكادحين، وستجدهم متفوقين ومتميزين فيما يقومون به؛ لأنهم أخذوا من تلك المدرسة أساسا صلبا ومنهجا قويا للتحليل ومقاربة القضايا والأحداث. والثانية أنهم لم يكونوا من أكثر الناس حبا للدنيا ولا حبا للمال ولا جمعه ولا الانغماس في الفساد. قل عنهم ما شئت من زلات و هفوات إلا الفساد و حب المال.

تسمع عن أناس في الدولة يتم سجنهم بسبب فساد مالي بغض النظر عن حقيقة التهمة من عدمها، و تسمع عن أناس أثرياء في البلد ولكنك لن تجد من بينهم "كادحا"، ولو أنه توظف وساير الحكومات وانخرط في الموالاة ولكن ليس لجمع المال ولا للثراء الشخصي. وهذا هو الحال الأعم لأعضاء الحركة الذين كانوا يحسبون بالآلاف، ونادرا ما تجد منهم أحدا من أثرياء البلد، أو أحدا منهم تشغله الثروة، فهناك أخلاق و رؤى ومسائل اكتسبها الكادحون من تلك المدرسة ومازالت بقاياها موجودة ويمكن أن تميزهم بها، أما أخبار الأنظمة وغير ذلك فتلك مقاربات سياسية وطرح سياسي، وهم نوعان فمنهم من لا زال على ذلك الحب العذري للوطن، والطوباوية والمثالية والورع الزائد، ومنهم من يرى أن ذلك الحب العذري لا ينجب، وأن صاحبه سيبقى يغني على الوطن دون أن يفيده بشيء، وانحاز إلى حب آخر مرن وسلس حتى لا أقول إباحي صاحبه يلامس لمسة هنا وهناك ويطلب قبلة هنا وهناك، ويتذوق طعم الكر والفر والتعامل مع الواقع والسياسات و الأهداف المرحلية، وهذا النوع الأخير هم من تجد فيهم هذه الصفات، وحتى عندما تجد فيهم تلك الليونة والمرونة وقابلية الانقياد فإنك ستلاحظ أنهم يؤدون عملهم بكفاءة وإتقان. وستلاحظ أن رغبتهم وهمتهم في جمع المال ضعيفة، وفي النهاية يظل أعضاء حزب الكادحين دائما متميزون، وقد احتفظوا لأنفسهم بقدر من النظافة والوطنية والاعتدال.

 

موقع الفكر: هل سمعتم ما قاله الرئيس عزيز من أن الكادحين هم من أفسد الدولة؟

محمد فال بن بلال: لا أعتقد ذلك، وربما سببه أنهم عارضوه كثيرا، وحتى إن أكثرهم انغماسا في السائد وأكثرهم براغماتية وواقعية لم يتمكن من الصبر عليه، وأنا مثلا من أكثرهم في ذلك وكنت سفيرا لكنني لم أستطع الصبر عليه طويلا.

 

موقع الفكر: هل الانقسام الذي حدث في حركة الكادحين انقساما حقيقيا أم أنه مجرد تبادل لأدوار؟

محمد فال بن بلال: لا، الانقسام كان حقيقيا وعميقا، ولكنه لم يفسد للود قضية.. بقى الإعجاب و التقدير المتبادل، و بقيت روابط الود والقرب والزمالة.