الدكتور محمدن بن محمد الحافظ في حوار مع موقع الفكر /التعليم لا بد أن يكون منطلقا من برمجة ورؤية للمستقبل.

في إطار مواكبة موقع الفكر لمجريات الساحة الوطنية، وسعيا منه إلى إطلاع المتابعين الكرام على تفاصيل الأحداث، بتحليل متوازن، ونقاش متبصر، نلتقي اليوم مع أحد أبرز أطر التعليم بالبلد، ممن خبروا دروب التعليم- أستاذا بالتعليم الثانوي، ثم بالتعليم العالي، ثم مديرا للتعليم العالي - وعايشوا تحدياته في حقبه المختلفة.

نتابع معه اليوم لنستجلي من خلاله ما وراء الخبر... في لقاء شامل حول واقع التعليم وآفاق إصلاحه، وتقويم الإصلاحات المتتالية للتعليم، كما يتناول اللقاء المشكل اللغوي بالبلد ،وهل هو مشكل تربوي أم مشكل سياسي.

 

فأهلا وسهلا بضيفنا الكر يم النائب الدكتور محمدن بن محمد الحافظ أحمدوفال،  من مواليد 31/12/1958م. تخرج من المدرسة العليا لتكوين الأساتذة، ليبدأ حياته المهنية أستاذا في التعليم الثانوي، ثم مديرا للدروس، فمديرا لإعدادية، ثم مديرا  لثانوية، ثم مديرا للتعليم العالي من1989-1992م.، ثم نائبا في الجمعية الوطنية 1992-2005م. ثم أستاذا في  الجامعة/ كلية الآداب، 2005م. ثم عمل أمينا عاما للمعهد العالي للمحاسبة وإدارة المؤسسات، ثم رئيس مجلس إدارة المدرسة العليا لتكوين الأساتذة.

موقع الفكر: ما تقويمكم لواقع التعليم في بلادنا؟

الدكتور محمدن بن محمد الحافظ: الحقيقة أن واقع التعليم في بلادنا في هذه الظرفية مزر تماما، وواقعه سيئ، لأن النظام التعليمي يقوم على أساس مردوديته الداخلية كنوعية المستويات ونوعية  البضاعة الموجودة عند الطلاب من هذا النظام التعليمي أو المردودية الخارجية كنتائج الامتحانات والمخرجات ،ومستوى تلك المخرجات وهذه المسائل عندما نقيِم على أساسها نظامنا التربوي (تعليمنا) نجد للأسف أن كل هذه المردوديات بلغت مرحلة متأخرة من الانحطاط ،وهذا ينعكس في نسب النجاح للأسف سواء في مسابقة دخول السنة الأولى إعدادية أو شهادة ختم الدروس الإعدادية، وحتى في نسب النجاح في الباكالوريا ،مع أن هذا الانحطاط ينعكس في التعليم العالي الذي سنتحدث عنه لاحقا.

إذًا هذا من جهة ومن جهة أخرى، إذا نظرنا إلى المستوى الذي يتمتع به تلميذ في السنة السادسة ابتدائية, ومن المفترض أنه قد أكمل البضاعة الأولى المطلوبة من التكوين القاعدي لكي يتجاوز إلى المرحلة الثانية التي هي المرحلة الإعدادية و الثانوية، ندرك للأسف أن بضاعته قليلة جدا ومهاراته في مستوى متدن جدا سواء في التفكير أو اللغة أو التعبير، من هنا ندرك أن التعليم الآن في مرحلة يرثى لها مما يستدعي تنظيم أيام تفكيرية أو ورشة وطنية يساهم فيها الجميع ،وتكون خالية من الجانب السياسي والتدخلات والإملاءات السياسية ،وتكون أيامًا الهدف منها فقط هو انتشال هذا النظام التربوي ولو كان ذلك الانتشال يتطلب إجراءات قاسية و جوهرية، بدون هذا فإن التعليم مع الأسف سيستمر في هذا الانحطاط الشديد إلى أن يصل إلى مرحلة الصفر.

 

موقع الفكر: ما أبرز مظاهر الاختلال في المنظومة التربوية؟

الدكتور محمدن بن محمد الحافظ: يظهر الاختلال في المنظومة التربوية للأسباب التي ذكرت سابقا من ضعف المردودية الداخلية وضعف المردودية الخارجية ،بالإضافة إلى أن هذا الاختلال يظهر في عدم وجود خارطة مدرسية معروفة ،وليست هناك قاعدة لافتتاح المدارس ،وقاعدة لإقامة البنى التحتية،  فكأننا نسير الأحداث اليومية وما تأتي به  الظروف اليومية، يعني هذا غياب البرمجة الواعية القائمة على رؤية أننا نريد في حدود سنوات معينة تحديد الجيل الذي نريد أن نبرزه، وهي الفترة التي يجب أن تتميز بتطور المعارف ورقمنتها وعالميتها.

التعليم لا بد أن يكون منطلقا من برمجة ورؤية للمستقبل، فالمستوى الذي نريده من الإنسان الموريتاني يحدده النظام التربوي، فالنظام التربوي يُعمل على ضوء ما يُراد أن يكون عليه الإنسان الموريتاني من بداية الطفولة الصغرى إلى أن يتخرج من الجامعة، فهذه الرؤية غائبة وهذا خلل كبير لا دواء له، ومن هذه الاختلالات ضعف الوسائل وعدم تناسبها في بعض الأحيان ،وعدم مراعاتها للأولويات وعدم مشاركة مختلف الأطراف والمعنيين بالعملية التربوية، فكون تسيير هذه العملية خاص بالوزارة أو القطاع المسؤول عن التهذيب الوطني ،وتابعة لفكرة المسؤول الأول. ولذلك نهج وزارة التهذيب الوطني هذه السنة ليس هو نهج السنة المقبلة إذا جاء وزير جديد وليس نهج السنوات الماضية لأنها كانت على رؤية وزير آخر، وهذا خطير؛ لأن الأشخاص يتغيرون ولكن الرؤية ينبغي أن تبقى هي نفسها والاستراتيجية ذاتها والثوابت على حالها. ولا شك أن هذا كله أدى إلى اختلالات بارزة في المنظومة التربوية يجب أن يُتصدى لها برؤية جماعية تشرك أكبر مستوى معين من الخبرة وكل من له عناية أو علاقة بهذه العملية يجب أن يشرك، وهو كثير، يبدأ من الوزارة وينتهي بآباء التلاميذ ويمر بالنقابات والمعلمين والمدرسين والسياسيين والشخصيات العلمية.

 

موقع الفكر: ما تقويمكم للإصلاحات التربوية التي قيم بها؟

الدكتور محمدن بن محمد الحافظ: لقد قيم بأربعة إصلاحات، إصلاح 1963م. و كان إصلاحا بسيطا فقد أضاف بعضا من مواد اللغة العربية و التربية الإسلامية؛ لأنه كان نظاما فرنسيا بحتا موروثا عن الاستعمار، ثم إصلاح 1974م. و كان إصلاحا حقيقيا لو استمر، كان الهدف منه طبع النظام التربوي بخصوصية موريتانيا مع المحافظة على خصوصيتها بسبب الاهتمام باللغة الفرنسية التي كانت هي الموجودة فقط و التركيز على اللغة العربية وعلى الخصائص الخاصة بالبلد.

 الإصلاح الثالث هو إصلاح 1979م. والذي كان إصلاحا ارتجاليا،ولم ينطلق من أي شيء؛ لأنه كان في فترة حكم العسكر، حيث كانت هناك تحركات من بعض مكونات البلد احتجاجا على اللغة العربية فعمد العسكر حينها إلى الجهد الرخيص وارتجلوا حلا سريعا ،وهو أن كل من كانت أمه ناطقة بالعربية يًجبر على الدراسة باللغة العربية، و كل من كانت أمه غير ناطقة بالعربية يخير بين الدراسة باللغة العربية أو الدراسة باللغة الفرنسية، فنشأ عن هذا نظامان تربويان منفصلان تماما، وزاد هذا الانفصال من الشرخ ما بين مكونات الوطن، فأصبح هناك نظام عربي لفئة معينة وهو الأكثر، ونظام فرنسي أو مزدوج لفئة وطنية أخرى، وكان الطلاب والتلاميذ لا يلتقون في أي مرحلة من المراحل الدراسية، وهذا أمر خطير لكنه حينها كان حلا أسكت الجميع، خاصة الفئة التي كانت تحتج.

هذا الإصلاح ولد جماعة معربة لا تمتلك أي مستوى في اللغة الفرنسية ونظاما مزدوجا أو فرنسيا ليس لديه أي مستوى في اللغة العربية وأصبح هذا الخلل قويا ،وكان بالإمكان التغلب عليه ببذل جهد في تحسين اللغات فقط، عن طريق إعطاء جهد خاص لتعليم اللغة العربية بالنسبة للشعبة المزدوجة وإعطاء جهد خاص في تحسين مستوى اللغة الفرنسية بالنسبة لشعب العربية ،لأنه في الحقيقة لا توجد دولة تعيش على لغة واحدة، لأنه لا بد من لغة ثانية.

وبدل أن يكون هذا الإصلاح كافيا قام النظام حينها -لا أعرف برؤية من- بإصلاح  1999م. هذا الإصلاح كانت له إيجابية واحدة هي أنه وحد النظام التربوي، لكنه انطلق من أن المواد العلمية لا يمكن تدريسها إلا باللغة الفرنسية والمواد الإنسانية والأدبية تدرس باللغة العربية وهذا خطأ كبير؛ لأنه ولد ضعفا عاما في المواد العلمية لم يكن موجودا؛ لأنه من المسلمات أن الدراسة كلما كانت باللغة الأم كلما كان المتلقي أقدر على الاستيعاب والفهم والابداع..

الأمر الثاني يجب التنبيه على أنه ليس من الصعب تدريس المواد العلمية باللغة العربية ولذلك هناك دول عربية تدرس موادها العلمية بالعربية ،ولا يعني هذا التنكر للغة الحية تماما ،فربما هناك مستوى متطور من البحوث العلمية لم تصل إليه اللغة العربية  في الوقت الحالي ،وليس ذلك من ضعفها ولكن من عدم استعمالها في تلك المرحلة ،ولكن هذا الفرق موجود كذلك بين اللغة الفرنسية و اللغة الانكليزية، فمستوى البحث العلمي باللغة بالإنكليزية لا يمكن أن يقارن بمستوى البحث العلمي باللغة الفرنسية ،فهي قاصرة قصورا كبيرا دون الإنكليزية، فاللغة العربية ليست قاصرة عن تدريس المواد العلمية بجميع أنواعها إلى المرحلة العليا ،ولكن لا يمكن الاقتصار على اللغة العربية، ولا بد أن تكون هناك لغة حية فرنسية أو إنكليزية لأنها مهمة لإغناء المعارف، و للتمكين من الاتصال بالأمم الأخرى و الحداثة اليوم.

هذا الإصلاح التربوي الذي يصفونه بالإصلاح سنة 1999م. في الحقيقة هو إصلاح كارثي نستفيد منه كما قلت أنه وحد النظام التربوي ،فأصبح كل الموريتانيين يدرسون في قاعة واحدة ،ولكن أصبح هناك ضعف عام في المواد العلمية ،لأن المتلقي لا يتلقاها بلغته الأم وأصبح هناك ضعف عام في المواد النظرية و الأدبية ،لأن هناك شرائح لا تعتبر اللغة العربية لغتها الأم ،وبالتالي لم تكن مهيأة لهذا ،فنشأ نظام تربوي للأسف ضعيف جدا، وكل عام بعد عام يزداد ضعفه حتى يصبح يوما واقعا مأساويا، ولأن هذا الاصلاح صدر في العام 1999 ،فنتائجه ظهرت في العام 2009 أي بعد عشر سنوات، كما هو المعتاد في أي إصلاح حيث إنه بعد ثمان سنوات يتخرج طلاب البكالوريا وبعد سنتين من الباكالوريا يصبحون معلمين وبعد أربع سنوات من البكالوريا يكونوا أساتذة ،وبعد ست سنوات من البكالوريا يصبحون أساتذة تعليم عال، إذًا نحن الآن نعيش حصاد هذا الاصلاح وهذا الحصاد هو الذي يجب أن يعالج , فأصبح النظام التربوي يضعف  سنة بعد سنة ،وتضعف المستويات وتنقص البضاعة العلمية والنظرية عند الانسان الموريتاني، والذي نحتاجه الآن هو إصلاح تربوي ينطلق من خصائص البلد على أن ترافقه رؤية حقيقية وطنية غير سياسية، وتعبأ له الوسائل الكافية بعيدا عن إكراهات السياسة وضغطها، وإلا فاستمرار الإصلاح الذي نعيشه الآن كارثي بالنسبة للتعليم في البلد.

 

موقع الفكر: ما العوامل التي أدت بها جميعا إلى الفشل؟

الدكتور محمدن بن محمد الحافظ: لا يوجد إصلاح منطلق من رؤية مدروسة وشارك فيه جميع المعنيين والهيئات المعنية وتوفر له جميع الوسائل المطلوبة من متطلبات مادية وبنى تحتية والبرامج والكتاب المدرسي والأدوات اديالكتيكية إلى غير ذلك.

هذا كله هو السبب الرئيسي لفشل جميع الإصلاحات.

 

موقع الفكر: هل من تصور عن حقيقة الإصلاح التربوي الناجع؟

الدكتور محمدن بن محمد الحافظ: لا أدعي أنني خبير تربوي ولا شك أنه يوجد من هو أجدر مني للجواب على هذه الأسئلة، ولكن ما لدي من معلومات أتشرف بمشاركتها معكم، الاصلاح التربوي الناجع كما تحدثنا قبل هذا، هو الاصلاح التربوي الذي ينطلق من خصوصية وحاجة البلد ،وتساهم فيه جميع الفئات المعنية والشركاء المعنيون، وتوفر له مختلف الوسائل المادية والبرامج والكتب وقواعد البيانات وجميع ما يتطلبه إصلاح ناجع، عندما تتوفر كل هذه الظروف وتخلو من الإملاءات السياسية ،يعني ألا يكون هناك تأثير لسياسة معينة أو آيديولوجية معينة ولا رؤية منطلقة من آيديولوجية معينة، فالنظام التربوي أقدس وأهم في بناء الأمم من أن يكون موضوعا للابتزازات.

 

موقع الفكر: ما الأسس الموضوعية والفنية للإصلاح الجاد؟

الدكتور محمدن بن محمد الحافظ: العناصر التي يلزم توفرها لكي يبلغ الإصلاح الغايات والأهداف المؤملة منه هي ضمان مشاركة الجميع والانطلاق من الهدف الوطني، دون إملاءات أخرى وتوفير اللوازم المطلوبة من قاعات ومن مادة ومن عنصر بشري ومن كتاب وبرامج إلى غير ذلك.

 

موقع الفكر: ما المخرج السليم من الإشكال اللغوي(ما المقاربة الأمثل في نظركم لحل هذا الإشكال ،هل هو تعميم اللغة العربية أم إدخال اللهجات أم الإبقاء على الفرنسية كعامل موحد)؟

الدكتور محمدن بن محمد الحافظ: الحل أن يكون هناك مبدأ أو إرادة سياسة تشرك الجميع وتبرز الوسائل،

 على ضوء هذا، وبعد تقليب الأمور على جميع جوانبها يبرز نظام أو إصلاح تربوي جديد، لا يتأثر بالتغيرات السياسية ولا بالشخص المسؤول عن البلد أو الشخص المسؤول عن تسيير التعليم.

 

موقع الفكر: هل المشكل اللغوي مشكل تربوي أم سياسي؟

الدكتور محمدن بن محمد الحافظ: اللغة لا ينبغي أن تكون مشكلة سياسية، وهذا هو المشكل الذي عانت منه موريتانيا، فقد أصبحت هناك بعض الحركات التي جعلت من قضية اللغة قضية سياسية ،فاختلفت حولها الآراء و أصبحت هناك رؤى مختلفة ،في حين أن اللغة ينبغي أن تكون قضية تربوية ووطنية بحتة ،يعني أن هناك ثابتا وهو اللغة العربية ينبغي أن تكون لغة البلد كما نص على ذلك دستور 1991م. ولكن هذا الخيار أيضا ينبغي أن يصاحب بما يجسده في الإدارة والنظام التربوي ويجسده في الملصقات والأسماء، فاللغة أقدس وأهم في الأمم من أن تكون قضية سياسية ،وحتى أن تكون لها علاقة بالحركات السياسية وهذا لربما للأسف هو السبب الكبير الذي أوصلنا إلى هذه المرحلة.

 اليونسكو أجرت تجارب ودراسات أثبتت أن أداء المتلقي بلغته الأم لا يمكن أن يساوى أو يقارب أي أداء ممن تلقى تعليمه من لغة غير لغته، وبالتالي أبسط جهد بالتعليم باللغة الأم يعطي نتيجة أكثر من غيره, هذا يرافق بإجراءات أخرى ضرورية للعلم  ،و للتعايش مع هذا العالم الذي أصبح قرية واحدة ولا يعني هذا الانكماش على اللغة وحدها، ولا يعني هذا أننا في غنًى عن تدريس اللغات الحية وفرضها، وجعلها لغات تُقصي في مستوى معين منها في الامتحانات، لأنها وسائل يستفاد منها المجال التكنلوجي المتطور وفي التعايش مع الوسط الدولي.

 

موقع الفكر: هل يمكن مرتنة  مفهوم المدرسة الجمهورية المستورد ليناسب بلدنا المسلم المحافظ فنأخذ الإيجابيات ( مساواة التلاميذ ) دون الأخذ بقيم العلمانية المتوحشة؟

الدكتور محمدن بن محمد الحافظ: هذا المفهوم هو مفهوم فرنسي وطبعا الفرنسيون بنوه على- العلمانية البحتةــ (اللائكية)، وموريتانيا لا يمكن أن يصلح لها إلا إذا كان منطلقا من خصوصيتها و ثوابتها  الدينية الإسلامية، واللغوية العربية و هذه لا نقاش فيها، و ما زاد على ذلك كالتطور في المستويات العلمية والفنية وهذا يمكن أن يقتبس من الآخرين، إذًا مفهوم المدرسة الجمهورية بالنسبة لموريتانيا هو تكوين النشء على ثوابته ونعني بها الإسلام واللغة العربية، مع تكوينه على الوطنية وعلى معرفة التعامل مع الآخر، وعلى قيم التسامح وقيم الديمقراطية وقيم فهم الآخر والانفتاح عليه وفهمه دون الأخذ بكل ما عنده؛ لأنه علماني ونحن خصوصيتنا الإسلام واللغة العربية، وينبغي للمدرسة الجمهورية عندنا أن تكون أول مبادئها المحافظة على الثوابت الأساسية، وثانيها الانفتاح على الغير على ما عنده من الموروث الإنساني. والغرض من كل هذا هو بلورة إنسان موريتاني يتميز بخصوصيته الموريتانية الإسلامية والعربية ،ولكنه منفتح على اللغات الأخرى والمعارف الأخرى الفنية والعلمية، ويؤمن بقيم الديمقراطية والتعامل مع الآخر وقبول رأيه، وهذا هو المفهوم السليم للمدرسة الجمهورية.

 

موقع الفكر: ما ذا عن واقع موظفي التعليم وهل يمكن النهوض بالتعليم بموظفين يعيشون واقعا مثل واقع المدرس؟

الدكتور محمدن بن محمد الحافظ: من معيقات النظام التربوي والإصلاحات التربوية التي تحدثنا عنها كلها، هو الواقع المزرى  لموظفي التعليم وخاصة المدرسين لأن الانسان المدرس هو العامل الأساسي في العملية التربوية ،مع مساعدة الكتاب ومساعدة البرنامج والمتابعة التي هي مهمة المشرفين أو المفتشين، وبمساعدة التسيير الذي هو دور القطاع ولكن العملية التربوية التي يباشرها هو المدرس وهذا هو التعليم، وهو الجوهري في نهوض الأمم، فسنغافورا واليابان و غيرهما من الدول التي قطعت أشواطا في مراحل قياسية، وقطعتها بالتركيز فقط على التعليم وعلى المدرس حيث توجد دول اليوم وضعية المعلم فيها أفضل من وضعية الوزير والمهندس والرئيس، وهذا هو الأساسي في  تشكلة  الانسان المدرس.

 إذًا للأسف من أهم العوامل التي أدت إلى الخلل في نظامنا التربوي هي واقع الموظف في التعليم وأقول إن الدولة لا توفر الحد الأدنى المطلوب للإنسان المدرس ،وإنسان التعليم عموما ليقوم بالحد الأدنى من عمله وهذه هي القضية الجوهرية، وقد جعلتها من ضمن القضايا الأساسية لأي إصلاح ، ذلك الجانب المادي الذي تحدثت عنه أعني به التحسين من وضعية المدرس والعامل في مجال التعليم عموما، لكي يتمكن من أداء مهمته أداءً كاملا.

فالمدرس يحتاج أيضا زيادة على هذا المتابعة وزيادة الخبرة والتوجيه الدائم والإشراف عليه، يعني أن هناك جانبا آخر وليس الجانب المادي فقط ولكن الجانب العلمي و التقني يحتاجه إنسان التعليم، لكن للأسف الواقع الحالي ماديا وعلميا لا يوفر الحد الأدنى، فالمعلم من تخرجه يبقى في نفس المستوى إلى أن يتقاعد وهذا أدى أن المتقاعد أيضا ليس في المستوى فالدولة تستخدم الانسان 35 أو 40 سنة براتب خفيف وعندما يصبح في عمر لم يعد منتجا فيصبح لا شيء له، كما يقول الجزائريون: "إن معنى التقاعد أي مت قاعدًا"؛ إذًا إنسان التعليم في وضعية يرثى لها ،و هذا من أسباب الضعف الملاحظ في النظام التربوي.

 

موقع الفكر: يلحظ من وقت لآخر مراجعة البرامج المدرسية هل هذه المراجعات استجابة لحاجات وطنية أم تناغم مع توجهات دولية أم لمجرد استدرار التمويلات؟

الدكتور محمدن بن محمد الحافظ: أنا لست على صلة مباشرة بالتعليم، فقد انفصلت عنه منذ سنوات ولكن مراجعة البرامج  لا ينبغي أن تكون إلا تبعا لرؤية جديدة منطلقة من تصور وهدف مستقبلي مرسوم، لأن مراجعة البرامج لا بد أن ترافقها مراجعة الكتاب المدرسي، ولا بد أن يرافقها تحسين الخبرة وتكوين المدرس على هذه البرامج ،ولا بد أن تخضع أيضا لمراحل تجريبية قبل أن تتم المراجعة، إذًا هي ليست عملية تتم بين أربعة جدران وينبغي  لهؤلاء الشركاء أن يكونوا مشاركين فيها جميعا ومنظورا لدورهم فيها، ما ألاحظه أنني في الفترات الأخيرة في كل فترة يقال لي إن هناك مراجعة لبرنامج المادة كذا أو المادة كذا ،ولكن هذا لا ينبغي أن يكون بهذه الطريقة ولما نريده من المتلقي (التلميذ) ،وأن تؤخذ له التدابير والإجراءات المرافقة التي تحدثت عنها سابقا، وهي الأداة (الكتاب) والانسان الذي سيطبق البرامج (المدرس) ومجموعة من العناصر الأخرى، لا ينبغي أن تكون مراجعة البرامج قضايا ارتجالية تحدث من وقت لآخر بدون أن تؤخذ لها التدابير اللازمة.

 

موقع الفكر: إلام ترجعون الأزمة المستفحلة في توفر الكتاب المدرسي؟

الدكتور محمدن بن محمد الحافظ: الكتاب هو الأداة التي يباشر عن طريقها المدرس تجسيد البرنامج، و الكتاب مؤلف على ضوء البرنامج وهذا كله من أجل غاية معينة نريد أن نحققها من المتلقي أي التلميذ، وكان ينبغي أن تكون هناك إجراءات ووسائل تضمن أن الكتاب المدرسي يكون متوفرا في جميع المراحل، ويكون حسب المناهج المعمول بها ولكن ظلت فيه ندرة قوية لا أعرف سببها، ولكن أعرف أن المعهد التربوي مهيئ أصلا فقط من أجل هذه المهمة وعنده مطبعة مدرسية ،والطاقم البشري للبرنامج متوفر، وأعرف فقط كأحد آباء التلاميذ أن في الكتاب المدرسي أزمة قوية.

 

موقع الفكر: إلام ترجعون الأزمة المستفحلة في نسب النجاح في الامتحانات الوطنية؟

الدكتور محمدن بن محمد الحافظ: النسبة الكارثية في الامتحانات الوطنية هي انعكاس حقيقي لفشل النظام التربوي, وكما تحدثنا في البداية أن الدليل على الخلل في النظام التربوي هو ضعف المردودية الداخلية  والمردودية الخارجية التي هي الخريجون، أي نسبة النجاح ومستوى المخرجات، كحملة شهادة الإعدادية والباكالوريا والليصانص والماستر...

نسبة النجاح في الباكالوريا أصبحت مأساوية لأنها عادة تتراوح ما بين 9 – 15%، فنحن ننفق على مجموعة من التلاميذ وبعد عشر سنوات تتخرج منها 15% و 85% تضيع لأنها لم تنشئ لها معاهد مهنية وحرفية تكونها في المهن المتوسطة والتي تعمل فيها اليد العاملة الأجنبية, ولم نعمل على تحسين نظامنا التربوي بحيث نرفع نسبة النجاح في الباكالوريا إلى 35 أو 50% إذًا هذا خلل كبير في المردودية الخارجية في نظامنا التربوي. المردودية الداخلية هي المستوى الذي يحصل عليه التلميذ عموما في تعبيره وتفكيره و في مستواه إلى غير ذلك،

أذكر أنه منذ سنوات كانت نسبة النجاح في الباكالوريا في فرنسا 87% فقامت الدنيا ولم تقعد واحتجوا ساعتها على وزير التربية متسائلين عن مصير 13% التي بقيت بدون باكالوريا ماذا ستفعل بها، أما الدراما التي هنا ليست 13% و إنما 85% وفي بعض الأحيان تكون 89% ،هذه من المشاكل القوية المطروحة، صحيح أن فيها جانبا تقويميا لأن التلميذ من السنة الأولى من الإعدادية يتجاوز بصورة فيها محاباة، ولا يوجد امتحان يقيم مستوى الطالب بصورة مجردة مع الأخذ بجميع التدابير العلمية في الباكالوريا ،فكأننا نخادع الناس ننقلها من السنة الأولى إلى الثانية فالثالثة وهكذا وعندما يتهيأ الطالب للباكالوريا نجد أنه تم فننقل عددا كبيرامن التلاميذ بدون مستوى، ومن المفترض أن يبدأ التقويم وتحديد المستويات الحقيقية من السنة الأولى حتى نبدأ العلاج مبكرا، لكننا لا نطلع على المستوى الحقيقي إلا في آخر مرحلة حيث لم يعد العلاج ممكنا، وهذه أيضا من الاختلالات الواضحة في فشل النظام التربوي، والتقويم في الباكالوريا حتى الآن لا زال دقيقا. شيئا ما

موقع الفكر: التدني الشديد في مستوى جامعتنا والتي تحتل ذيل الترتيب العالمي هل له علاقة بالفشل في المراحل الأولى؟

الدكتور محمدن بن محمد الحافظ: هذه نتيجة تلقائية لنظامنا التربوي, لأن نتيجة حصيلة دراسة التلميذ في المرحلة الابتدائية والإعدادية والثانوية  تلاحظ في التعليم العالي، وللأسف كما ذكرنا في البداية أن هذا الوضع الكارثي للتعليم يزداد عاما بعد عام ،ويشتد ويكون أساتذة الجامعة ومعلمو المدارس من مخرجات نظام إصلاح مأساوي، ولذلك التعليم العالي في وضعية صعبة، زد  على ذلك أن التعليم العالي من خصائصنا أنه لم يكن ضمن برامجنا المعتبرة، ففي مرحلة معينة كان من الأهداف عند وزارة التهذيب زيادة رواد المدارس  فأعطيت أولوية للتعليم الأساسي ،ثم في مرحلة معينة أعطيت الأهمية لرواد المدارس في المرحلة الإعدادية والثانوية ،وانتشرت الإعداديات في كل بلدية والثانويات في كل مقاطعة وهكذا، لكن التعليم العالي لم يستفد من تمويلات ولم يستفد من رؤية أولوية في البلد ،ولذلك جاء فقط في صورة مرتجلة غير مبرمجة، فالجامعة عندما افتتحت سنة 1981 لم يكن هناك برنامج وجود جامعة و إنما كان كل خريجو الباكالوريا يوفدون للخارج، وفي تلك السنة كان الوضع السياسي للبلد سيء السمعة في العالم وأصبحت المقاعد المتاحة للطلاب قليلة ،فجمعوا الحاصلين على الباكالوريا وشكلوا لهم كلية آداب و كلية اقتصاد فرع ملحق بالمدرسة الوطنية للإدارة والصحافة، وفرع ملحق بالمدرسة الوطنية العليا وأصبح هذا يسمى مشروع جامعة لمدة أربع سنوات، وأصبح الطلاب على وشك التخرج ،فانتقل من مشروع جامعة إلى جامعة ولكنها جامعة لم تبرز لها الوسائل الضرورية، لا البشرية ولا البنى التحتية ولا المستوى العلمي ،إلى غير ذلك فهذا من مشاكل التعليم العالياليوم ،وأصبحنا كل سنة مجبرين على أن نقوم ببرمجة مؤسسة جديدة للتعليم لم تكن مبرمجة لأن أعداد حملة الباكالوريا تزداد و تكثر ،والمفروض أن حاملي الباكالوريا لا بد أن تتاح لهم فرصة التسجيل فتُنشأ مؤسسة من هنا ومؤسسة من هناك.

أضف إلى ذلك أن إيفاد الطلاب للخارج لم يعد معمولا به في أي بلد إلا في المستويات العليا من أجل البحث العلمي والمجالات المتطورة، فكأننا بين عشية وضحاها أصبحنا أمام نظام تعليم عال فيه عشرات الآلاف من الطلاب، وليست هناك بنية تحتية له ولم نهيئ له ماديا ولا بشريا إلى غير ذلك.

إذًا المشاكل الكثيرة منها غياب التخطيط وكون التعليم العالي رديفا فقط.

 

موقع الفكر: حدثونا عن مستوى الرقابة على برامج ومناهج المدارس الدولية الوافدة ( المدرسة الفرنسية )؟

الدكتور محمدن بن محمد الحافظ:  القانون واضح و ينص على أن أي مدرسة تريد أن تمارس التدريس في البلد ينبغي أن تكون طبقا لمقررات موريتانيا ،وبإشراف وتوجيه ومراقبة الأدوات التعليمية التي عندنا، ولكن هذا نظري أما عمليا فلا يوجد شيء من هذا فأي مدرسة أخذت الترخيص تصبح مستقلة وتعمل ما تريد، فمثلا المدرسة الفرنسية تعمل ببرنامج المناهج الفرنسية، والأتراك نفس الشيء وطبعا هذا مخالف للقانون، فالقانوني يقضي أنهم ملزمون على أن يكونوا جزءا من النظام التربوي الوطني وهذا هو نفس الشيء في التعليم الخصوصي، التعليم الحر ملزم أيضا على أن يكون مكملا للتعليم العمومي وهذا كله على أرض الواقع فيه اختلالات كبيرة من حيث الرقابة والاشراف عليه.