
وري الثرى أمس في مقبرة ( انتفاشيت) الدكتور محمد بباه بن محمد ناصر بن المهدي أحد أبرز عقول التعليم في موريتانيا، وأبرز أساطين البحث العلمي في جامعة نواكشوط، منذ تأسيسها وحتى رحيله الذي ختم به حياة حافلة، عمرها بالعلم طلبا مستمرا وأداء وتأليفا وتحقيقا ومباحثة ومناقشة.
ولد محمد بباه ولد محمد ناصر في حدود العام (1947) بين أبوين كريمين وفي مجتمع علمي تدرج في مراقي المعرفة، حتى نال شهادة الدكتوراه في تخصص الجغرافيا.. كل ذلك بالعزم والحزم والجد والاجتهاد،
وكان تخصصه في مادة الخرائط، رافدا لإنجاز وإنتاج عدد كبير من الخرائط المتخصصة للجغرافية الموريتانية، بل كان وفق البيان التأبيني لجامعة نواكشوط أبا الخرائطية الموريتانية.
يتنمي الراحل إلى أرومات علمية وارفة الظلال وعلى قمة المحتد العالي في العلم والشرف والاستقامة.
والدته الحاجة محجوبة العالمة المؤلفة الناسكة القانتة محبة النبي صلى الله عليه وسلم ووالدها الشيخ العالم والشاعر محمد بباه ووالد ذلك الشيخ هو أحمد الشيخ العالم القانت المؤلف ووالده محمد اليعقوبي الشاعر العالم ابن العلماء إلى هلم جرا.. يكفيه فخرا أنه مفرد أبوه هو العالم المفرد..
هذا من جهة الأم أما والده فمحمد ناصر القارئ المتبتل: فكم بات يتلوا للكتاب مرتلا..
خضع الفتى لتربية صارمة تقوم على المزاوجة بين المروءة والدين وحسن التعامل ولين الحانب وإكرام الضيف ورعاية وصيانة حق الجار، فهذا الحي لايقبل غير ذلك:( الل اعل المدهج لول والل اعل الستر دايم).. ولعله سمع في هذه البيئة الصارمة من إحدى معلماته بعض المحظورات: تحلب خلفة ما تعرب بيت هذ كشف رانك زليت.
اضطرت الظروف الصعبة الأسرة للقدوم إلى نواكشوط مع نهاية الستينات بسبب الجفاف وبسبب وفاة الوالد، كأن القدر يسوقهم لأمر آخر وهنا بدأت قصة أخرى ترفع سمك السماء في الكرم والجود الشنقيطي والعربي المفعم بالروح الاسلامية الأصيلة.. فمئات الشباب اضطرتهم الظروف للنزوح إلى العاصمة بحثا عن العمل، وأسر أخرى قدمت للعلاج وعابروا السبيل باتجاه السنغال كل ذلك وغيره، فكانت أسرة أهل محمد ناصرهنا- بالقرب من المنطقة التي تعرف حاليا بالمسجد السعودي- مأوى لكل غريب ومضافة لكل قادم رحب بأضياف العشي صدورهم يلقونهم ببشاشة وفراش..
وبموازة مسيرة الأسرة في المآثر والكرم بدأ الشاب الثلاثيني محمد بباه يشق طريقه للعمل بصفته الأكبر من بين اخوته الأشقاء وماهي إلا فترة وجيزة حتى اصبح معلما في مقاطعة امرج ورغم بعد الشقة بين المشرق والمغرب فقد حرص الشاب أن يسند الأسر بخالص ماله المتأتي من عمله في التعليم فيرسل لهم مبلغا ماليا لضيافة الجموع التي تقصد منزلهم لسنوات..
ومن جهة أخرى لم يكن هذا التخصص الدقيق ليحجز دائرة معارف واسعة تمثلت في شخصية محمد بباها، فقد كان الباحث المحقق المدقق الذي وصل أرحام العلوم، وبشكل احترافي وصل الرحم المقطوعة بين الجغرافيا والشعر، ليقفو خطى امحمد ولد الطلبة في رسم خارطة المواقع التي تضمنها شعره، وهي أنموذج بالغ الصعوبة، لتباعد وتعدد هذه المواقع، وشمولها لأجزاء واسعة من شمال وغرب وجنوب أرض البيظان بمعناها الثقافي القديم، من بطن تيرس إلي ابريبير..
وإلى جانب هذا كانت بصمة محمد بباه ظاهرة في المؤلفات والتحقيقات العلمية الباهرة الصادرة عن دار الرضوان، لتظهر قلما سيالا وعقلا بحثيا ثاقبا، وموسوعية علمية رصينة.
إن رحيل محمد بباه ولد محمد ناصر ليس رحيل رجل متواضع هادئ، كان يسير بهدوء، في غمار الناس، لا يهتم بأبهة ولا يريد مكانة، وهو الذي عرضت عليه الترقيات فزهد فيها، وكان ينظر إلى الأنظمة المتعاقبة بكثير من الريبة، ويرى في ممارساتها تفاقما للأزمة القيمية في المجتمع الموريتاني.
كان بباه رجلا من قيم يسير على قدمين، ولسان صدق، كان قريبا من الطلاب، أبا وموجها، ومن الأساتذة صديقا باحثا وأخا مساندا.
كان له رأيه السياسي الذي لم يبتذله في التداول السياسي الحدي، كان ينشد الإصلاح ولا يرى له طريقا خارج ثنائية التعليم والقيم الإسلامية والهوية الجامعة.
رحم الله محمد بباه بن محمد ناصر، فبرحيله تهد سارية ركينة من معالم البحث الأكاديمي والموسوعية في موريتانيا..
"خالي فمن يبْأَى بخاله عليْ ولْيُرِ مرءٌ خالَه يوما إليْ
رحمه الله على وأسكنهْ من الفراديس بأعلى الامكنهْ
يَرفُلُ في الحُبورِ والنّعيمِ ويتعاطى قَرْقفَ التسنيمِ
والله في ذويه طراً يخلُفهْ ولا فتِي يقفو هداه خلَفُه
وبارك الله عليهم ولهم وشدّ أزرهم ولمَّ شملهم"













