المحاظر القرآنية في قرى النهر..عراقة تأبى الاندثار (تقرير.. ج 2 )

لا أماكن للمحاظر سوى ظلال الأشجار ولا مأوى لطلابها غير باحات المساجد

لا تكاد تخلو أي من قرى الضفة من وجود محظرة قرآنية، أو كتّاب لتحفيظ القرآن الكريم، حيث تظل هذه الكتاتيب فرصة السكان الوحيدة لربط أطفالهم بكتاب الله، وتعليمهم مبادئ القراءة والكتابة وهم لايزالون في سن مبكرة..

ورغم حاجة المحاظر القرآنية إلى التطوير والأخذ بطرق تعليم أفضل ،تزيد من ترغيب الناشئة في التعلم وتختصر الوقت والجهد ،إلا أن الوفاء لتقاليد المحظرة العتيقة لا زال سيد الموقف كما يشرح المدرسون، فلا مقرات خاصة هنا للمحاظر غير باحات المساجد والأعرشة وتحت ظلال الأشجار، ولا كتب ولا دفاتر وأقلام غير الألواح المنحوتة من الخشب وأقلام الجريدة والتي لا مداد لها غير نقيع الفحم الممزوج بالصمغ..ولا مصدر للإنارة سوى المصابيح اليدوية وفي أحيان كثيرة ضوء النيران..ومع ذلك فالمحاظر تشهد إقبالا منقطع النظير ،لاسيما في شهور العطلة الصيفية كما يقول محمد الأمين ولد أحمدو مدرس بمحظرة التوفيق الغربي 36كم على طريق روصو.

تعليم للجميع

ظلال الأشجار تؤكد حاجة المحاظر إلى مقرات تقي ظلابها الحر والقر في قرية سكام 2 يشرح مسؤول القرية محمد ولد إبراهيم حاجة المحظرة إلى مقر لإيواء طلابها ووقايتهم من الحر والقر، فوسائل السكان المحدودة لا تمكنهم من تدبير مقر مستقل، ولا توفير التجهيزات المكتبية للمحظرة وقصارى جهدهم المساهمة في تحصيل جزء يسير من راتب المدرس ،فيما تتكفل بالباقي جمعية البركة وهي إحدى الجمعيات الخيرية الداعمة للمحاظر في منطقة النهر على حد قوله.

المحاظر في العديد من القرى وبسبب انتشار الأمية ليست حكرا على الصغار، بل هي للجميع يتعلم فيها الكبار فرض عينهم ويحفظون بعض السور القصيرة التي يتعلق بها إقامة الصلوات،كما تشرح آمنة بنت أباه من نفس القرية وهي تشكر الجمعية على تعاقدها مع مدرس مقيم لا يبرح القرية بعد معاناة طويلة من انقطاع الدروس، وتعطل المحظرة...

المدرس الرسالي

في مقابل التسرب المدرسي للبنات إقبال على المحاظر القرآنية من هؤلاءومع كثرة المطالب والتحديات التي تواجه المحاظر في منطقة الضفة إلا أن وجود المدرس الكفء والمتجرد في أداء رسالته يظل السبيل الأول لتذليل الكثير من تلك التحديات والصعاب ،كما يقول المدرس الشاب يحي ولد محمد الأمين المنتدب من نفس الجمعية للتدريس في محظرة بضواحي مدينة سليبابي، والتي تضم أزيد من 60 طالبا وطالبة.

ورغم الالتزام بعدد محدد في كل محظرة لا يتجاوز 30 طالبا وفق تعليمات القائمين على الجمعية إلا أن الإقبال الكبير وغياب البديل في حال رفض طلبات التسجيل ،يجعل الموقف صعبا ويؤثر بشكل كبير على استفادة الطلاب ويشتت انتباه المدرس، كما يقول المدير التنفيذي المكلف بالتعليم لجمعية البركة الشيخ محمد الأمين أجاه.

يجري توزيع الطلاب إلى مستويات بدء من مرحلة التهجى والحفظ والاستظهار وصولا إلى مستوى المراجعة والتثبيت لما تم حفظه من القرآن الكريم ،وهي المرحلة التي تقتطع الكثير من وقت المدرس لما تحتاجه من تفرغ تام ومن جلسات طويلة للتسميع والمراجعة ،كما يشرح مدرس محظرة التوفيق 36 كم على طريق روصو محمد الامين أحمدو، مؤكدا أن التعليم في الغالب على فترتين صباحية ومسائية تمتد إلى الغروب وبسبب انعدام أي مصدر للإضاءة فإن ساعات الليل يخلد فيها الطلاب للراحة، ولمن شاء من كبار الطلاب أن يراجع محفوظاته.

تقاليد خاصة

المحظرة حاضنة التعايش، ورافد العطاء والنماء في منطقة النهر  تجمع العديد من المحاظر بين طريقتين في الحفظ من الألواح الخسبية أو من المصاحف المجزأة وغالبا يبدأ للطفل باللوح ثم يجري استبداله تدريجيا بالمصاحف المجزأة رغم النقص الكبير الذي تعانيه المحاظر على مستوى المصاحف والأدوات المكتبية  ،والقول للمدرس محمد الأمين.

يغدو الأطفال في قرى النهر إلى المحاظر وكلهم حب وتعلق بالطبيعة الساحرة التي تميز مناطق الضفة هذه الأيام لكن تعلقهم يظل أكبر بأجواء المحاظر التي يتنافسون فيها مع أترابهم،و من يحرز منهم قصب السبق وينهي حفظ حصته اليومية من القرآن قبل الآخرين، ولبعض المحاظر تقاليد خاصة في إذكاء هذا التنافس فمن أنهى أولا يتفل على رأس زملائه، ولا أحد يريد أن تكون حصته من الريق أكبر بالتأخر أكثر في الحفظ والاستظهار يعلق أحد الطلاب.

من تقاليد المحاظر أيضا ما يسمى ب"الأثنينية" و"الأربعية"، وهي إكرامية وهدية خاصة لمدرس القرآن يجلبها الطالب معه يومي الأثنين والأربعاء ،لكن هذا التقليد لا يؤخذ به في المحاظر التي ترعاها جمعية البركة، حيث يتم التكفل بالمدرس بالتشاور مع الأهالي وتقييم أدائه كل فترة كما صرح المدير التنفيذي المكلف بالتعليم الشيخ محمد الأمين أجاه.

تحديات جمة

المحاظر الملاذ الأخير لدى سكان الضفة لربط أطفالهم بتعاليم الدين الاسلامي لا تزال المحاظر القرآنية في قرى النهر تثبت تحديها للطرق العصرية في التعليم، وتؤكد تشبثها بما بقي من آساليب التعليم الأصلي في موريتانيا، وفاء ساهمت فيه عوامل عديدة ،من بينها تردي الوضع المعيشي وهشاشة البنى التعليمية والخدمية في هذه القرى التي يشكو بعضها العزلة الخانقة لاسيما في فصل الخريف كما هو الحال في قرى شمامه مما يلي الضفة.

ومع ذلك لا يعدم المرء ظلالا للتجديد في الوسائل وإن بدت هامشية ،إلا أنها تحمل دلالات خاصة ،فالاعتماد على الألواح الخشبية في هذه القرى آخذ في التراجع لصالح المصاحف المجزأة، وهناك استبدال لأقلام الجريد والمداد بأقلام حديثة ذات حبر أسود فاحم ،لا تحتاج مدادا من الفحم ولا تستدعي مجهودا في تحضير المداد، وتسطير الألواح يعلق أحد المدرسين.

لكن التغيير الأكبر يظل في الإقبال على المحاظر والنظر إليها كرافد تعليمي واعد ،لا يعيق التمدرس ولا يحول دون تمييز الطالب وإحرازه أفضل النتائج في المسابقات والامتحانات الوطنية.