فجعنا قبل يومين برحيل أحد أفضل وأعزّ قادتنا وأكثرهم دراية وتميزا فى التاريخ والفكر والأنساب وفوق ذلك كله هو بمثابة ذاكرة خاصة لنا فى مدينة بوتلميت, إنه الوالد باب ولد سيدي امحمد ولد اسويدات منّ الله عليه بواسع فضله وعظيم مغفرته وأسكنه فسيح جنانه .
هو مصاب جلل علينا نحن كأسرة وعلى أهل مسعود, ومصاب عظيم على أهل بوتلميت عموما وفاجعة أليمة على من عرف الرجل واستمع إليه وسمع منه.
فى ثلاثينيات القرن الماضي وتحديدا فى سنة 1933 ولد باب ولد سيدي امحمد ولد اسويدات لأسرة من أفضل أسر أولاد امحمّد اختار طريقه مبكرا للدراسة والعلم والتعليم .
كان الراحل ملاذا لكل باحث عن تاريخ المدينة بتفاصيله الدقيقة وأسماء الأشخاص وتواريخ الأيام والساعات, ووصف ما حدث بلغة بسيطة جزله عميقة وكأنك تتابع الإجابة فى فيلم بتقنية عالية الجودة فتبارك الله أحسن الخالقين .
جاورتُ فى صغري منزل أهل اسويدات وكان ذلك فى حياة والدتنا الكريمة (مُكَوه ) منت أحمد عيشه جعل الله الجنة مثواها وأنزلها منازل الصالحين, فكانوا نعم الجار خلقا وخُلقا, ولم تنقطع الصلة لله الحمد حتى اليوم .
قبل سنوات كنت أعد برنامجا تلفزيونيا لقناة المرابطون عن مدينة بوتليمت فزرت الوالد باب ولد اسويدات فى منزله شمال المدينة بعد أن تواترت عدة نصائح لي بأخذ المعلومات منه باعتباره أفضل من يعرف التاريخ بدقة وتجرد حسب كثيرين.
تحدث باب عن صباه وكيف نزل مع والده على الشيخ عبد الله ولد الشيخ سيديا وعندما همَّا بمغادرة الحي خاطب عبد الله الوالد قائلا ( خلِّ عنك بابَ أصلحْ هو ال لكَرايه) ويؤكد باب أن فراسة عبد الله كانت صادقة .
كانت أول وظيفة يشغلها الرحل معلما, وكان من الأماكن التى علقت بذاكرته مدينة بير ام اكرين التى أرسل إليها معلما ودرس فيها كما درّس فى عدة مناطق من الوطن.
تابع باب دراسته وكان ضمن ثلاثة أوكلت إليهم مهمة إنشاء أهم مؤسسة نقدية وطنية هي البنك المركزي فكان المحاسب, ويتذكر تفاصيل تلك العملية والصعوبات التى واجهتهم بقيادة الإطار النزيه الرئيس أحمد ولد داداه, كما عمل لفترة طويلة فى السفارة الموريتانية فى تونس وليبيا ومالي وظل موظفا للدولة حتى تقاعد .
بعد تقاعده جمع الراحل باب مكتبة ثرية تزخر بكتب عن تاريخ موريتانيا وما كتبه المستعمر عن موريتانيا وما سطّره أغلب من صنعوا التاريخ فقد كان باب رجلا يحب القراءة والمطالعة .
لا يخفي الراحل أفكاره ولا رأيه, لاكنه لا يصرح بشيء كتصريحه بحب مدينة بوتلميت وأهلها وتذكاره لمعاصريه وإشادته بمن تميز منهم فى مجالات عديدة .
أتذكر مرة كنت أسجل معه حديثا عن تاريخ موريتانيا فكان له رأي فى العسكر والانقلابات واستهداف المخالفين لهم, فقلت له:
(باب هذ امتين
كالِّ اماّلُ امعاه صورتِ؟
كتلُ اهيه امعاه بعد
كَالِّ انشرُ انتَ أحد امكذب إجينِ آن عند امبار أهل سيدنَّ.)
عندما زرته طلبت منه أن ينصحنى بمن يتحدث معى عن مدينة بوتلميت وتاريخها فقال لى أعرف رجلين من أفضل من يتحدث فى التاريخ وأكثر الناس معرفة به وبتفاصيله وهما الشيخ ولد احمد عيشه رحمة الله عليه والعمدة ابراهيم ولد عبد الله أطال الله فى عمره .
كان آخر لقاء لى معه فى مقيل جمعني به ضمن مجموعة كبيرة من المعزين فى منزل الأهل بأبيتلميت بعد وفاة العمة والوالدة محجوبه منت ابيه رحمها الله تعالى وكان مقيلا رائعا مفيدا وممتعا تصدر فيه المجلس وكانت كل الأسئلة ترد إليه ويرد بما يريد بسلاسة ودراية .
للراحل باب طبيعة ظريفة وأسلوب مرح بدون تكلف (ماهُ امكفًّس) حتى فى سرد التاريخ وتفاصيله وطريقة تعبيره عن بعض الأمور .
أتذكر أنه بعد انتهائي من الفلم وبثه أخذت نسخة منه على جهاز كمبيوتر عندى وأتيته مساء لمشاهدة الفيلم فتابعه بإنصات لجميع ما دار فيه وأعجب بحديث كثير من المتحدثين فيه من أبناء المدينة خاصة نصائحهم للتآلف والتراحم بين أبناء المدينة وعدم ترك الخلاف يعصف بمدينة العظيمة, وعندما أشرف الفلم على نهايته خاطبني وبعض من فى المنزل قائلا: ( آن اثرِ زين كَاع حتَّ, وهاوْ شوفُ صورتِ) .
باب ولد اسويدات عملة نادرة من شيوخ عاشوا كرماء وماتوا سعداء لم يعرف النفاق ولا التزلف ولا حب المال إلى قلوبهم سبيلا ولم يجاملوا فى آرائهم .
ستفتقد موريتانيا برحيله أحد رواد جيل التأسيس فرّطت فيه طيلة حياته, وستفقد مدينة بوتلميت ذاكرة تاريخية جمعت الصدق والنزاهة إلى المعرفة والخبرة فى تناول الأحداث التاريخية فى كل محطات تاريخ المدينة .
تتزاحم الخواطر والذكريات برحيل رجل فاضل, ويزداد الندم على رحيل رجل مثله, دون أن نستفيد منه فى كتاب أو حتى مذكرات تجمع شتات عشرات السنين مما تزخر به ذاكرة ظلت قوية لشخصية مميزة عايشت تفاصيل الدولة وكيف تم البناء.
كل العزاء لأهل مسعود ( النعيم الفردوس العاكَر ) وللأهل الكرام ولمدينة بوتلميت.
إنا لله وإنا إليه راجعون