ومادام الإنسان مُؤلفا من قبضة الطين ونفخة الروح، أو بلفظ أخصر: من الروح والبدن، فإن لروحه عليه حقاً، ولبدنه عليه حقاً ، وعليه أن يُعطي كل ذي حقّ حقه، فلا يجوز أن يغفل عن جانبه الروحي حتى يصدأ ويظلم، ولا جانبه البدني حتى يضعف ويسقم. وبهذا يرفض الإسلام موقف عباد البدن، الذين ليس لهم هدف إلا إشباع غرائزهم، ويرفض موقف الذين اعتبروا الجسد عدو الروح، ولا ترقى الروح وتصفو إلا بتعذيب البدن وتجويعه وإتعابه، وقد قامت على ذلك ديانات وفلسفات. ومن هنا كانت نصيحة الرسول لمن غلا في تعبّده: "إن لبدنك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا، وإن لأهلك عليك حقا، وإن لزورك عليك حقا" .
3. والإسلام وسط في النظرة إلى الحياة بين الذين أنكروا الآخرة، واعتبروا هذه
الحياة الدنيا هي كل شيء، هي البداية والنهاية: {وَقَالوُا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياَتنَا الدنُّياَ وَمَا نَحْنُ بمِبْعوُثيِنَ} [الأنعام:29]، وبهذا غرقوا في الشهوات، وعبّدوا أنفسهم للماديات ،ولم يعرفوا لهم هدفاً يركضون وراءه غير المنافع الفردية الدنيوية العاجلة ... وهذا شأن الماديين في كل زمان ومكان ... وبين الذين رفضوا هذه الحياة، وألغوا اعتبارها من وجودهم، واعتبروها شراً يجب مقاومته، والفرار منه، فحرموا على أنفسهم طيباتها وزينتها، وفرضوا على أنفسهم العزلة عن أهلها، والانقطاع عن عمارتها والإنتاج لها .
فالإسلام يعتبر الحياتين، ويجمع بين الحسنتين، ويجعل الدنيا مزرعة للآخرة ،ويرى العمل في عمارتها عبادة لله ،وأداء لرسالة الإنسان، وينكر على غُلاة المتدينين تحريم الزينة والطيّبات، كما ينكر على الآخرين انهماكهم في الترف والشهوات، يقول الله تعالى في كتابه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يتَمَتعَّوُنَ وَيَأكُلوُنَ كَمَا تأَكُلُ الْأنْعاَمُ وَالناَّرُ مَثوْى لَهُمْ} [محمد:12]، ويقول تعالى: {ياَ بنِي آدمَ خُذوُا زِينَتكَمْ عِنْدَ كُلِ مَسْجِدٍ وَكُلوُا وَاشْرَبوُا وَلا تسْرِفوُا إنِهُ لا يحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّه التِّي أخْرَجَ لِعِباَدِهِ وَالطَّيبِاَتِ مِنَ الرِزْقِ} [الأعراف:31،32].
ويذكر القرآن: أن السعادة والحياة الطيبة في الدنيا من مثوبة الله لعباده
المؤمنين فيقول: {فَآتهُمُ اللَّه ثوَابَ الدنُّياَ وَحُسْنَ ثوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّه يحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:148]، ويعلم المؤمنين هذا الدعاء القرآني الجامع لحسنتي
الدارين: {رَبنَّا آتنِا فِي الدنُّياَ حَسَنةَ وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنةَ وَقنِا عَذاَبَ النار} ]البقرة:201]. وكذلك الدعاء النبوي: "اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، والموت راحة لي من كل شر". (رواه مسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار- رقم: -2720- عن أبي هريرة).