عدت إلى أهلي في وادان ،يا سادتي بعد غيبة طويلة ، ثمانية قرون على وجه التحديد ، ثمانية قرون وأنا أحن إليهم وأحلم بهم ، ولما جئتهم كانت لحظة عجيبة أن وجدتني حقيقة قائماً بينهم .
أرخيت أذني للريح . ذاك لعمري صوت أعرفه ، له في وادان وشوشة مرحة .
صوت الريح وهي تمر بالنخيل .
نظرت خلال النافذة إلى النخلة القائمة ، فعلمت أن الحياة لا تزال بخير ، أنظر إلى جذعها القوي المعتدل ، وإلى عروقها الضاربة في الأرض ، وإلى الجريد الأخضر المنهدل فوق هامتها فأحس بالطمأنينة.
أحس أنني لست ريشة في مهب الريح ، ولكني مثل تلك النخلة ، مخلوق له أصول ، له جذور، له هدف .
الطيب صالح بتصرف
إنطلاقة النسخة الجديدة من مهرجان المدن القديمة ،مناسبة لأبناء مدينة وادان ومحبيها والمهتمين بتراث وتاريخ المدن القديمة ، لقضاء أيام ، في مهد ثقافة وتراث، ظل عصيا على النسيان وأبى إلا أن يجد له حيزا ومكانة معتبرة في الذاكرة الجمعوية للأمة .
فالمدينة التي مضى على تأسيسها ما يربو على ثمانية قرون من الزمن ،لا تزال حاضرة وذكرها تتعاطاه الألسن .
تم تصنيفها لدي اليونسكو ،إرثا حضاريا عالميا ،تنبغى المحافظة عليه، إضافة إلى باقي المدن التاريخية الأخرى ،التى يهدف المهرجان إلى تسليط الضوء على التراث المادي وغير المادي لها وذلك عبر أنشطته وفقراته المختلفة في كل عام .
سحر هذه المدينة لا حدود له والذوبان في دفاتر تاريخها أمر مؤكد ، فمنذ التأسيس ومرورا بمختلف المراحل التاريخية ، بوسع المرء رصد تاريخ جميل ، يتسم بالبناء والتنمية ،زاخر بقيم النبل والعطاء والصلاح ...
بتخطيط محكم تم تأسيس المدينة ، من قبل رجال ،بدووا مؤهلين ،لوضع حجر الأساس الأول ، للمجتمع الواداني الراقي ، الذي تسود فيه قيم السلام والمحبة وتعمر شوارعه وساحاته بطالبي العلم والمصلحين.
مجتمع يشدك ،لدرجة تتمنى لو أنك عشت فيه وتشعر بكثير من الفخر ، لأنه صار جزءا من تاريخك .
الموقع الجغرافي وطابع المؤسسين الروحي والديني وإيمانهم بالفكرة ،كان المحرك الأساسي لبناء مجتمع دينامي ،يملك القدرة على التغير والتطور والإنتظام ...
حط الأربعة -الحاج على الصنهاجي والحاج يعقوب القرشي والحاج عثمان الأنصاري ووالدنا الحاج عبد الرحمن الصائم المخزومي -أمتعتهم في تلك الرقعة ،التى أختاروها مسرحا لتشييد مكانتهم ورسم تاريخهم .
انطلقوا من اللاشيء ،ليصلوا إلى كل شيء، في صدر كل واحد منهم علم ،أكتسبه بعد جهد ومشقة ومكابدة عند شيخهم ،القاضي عياض بمدينة مراكش المغربية ، يحملون ذكريات عن رحلة حج ،استمدوا منها دروسا في الصبروالتحمل، زادهم إيمان تام ،بفكرة وحدتهم ،صنعت منهم رجال ،حالمون ومبادرون في نفس الوقت .
توالت رحلة عمران المدينة ،التى لا تزال الآثار شاهدة عليها ،فكان المسجد بمثابة اللبنة الأولى، منه دبت الحياة في أرجاء المدينة .
لنقرأ عن شارع العلماء ،الذي يوجد به أربعون منزلا متجاورا ،في كل منزل عالم وسور المدينة ،المحيط بها والذي كان حصنا منيعا ضد أي إعتداء او تدخل خارجي ، و البئر المحصنة ، التي تم حفرها وسط المدينة لتأمين المياه عند الحصار. أفكار توحى بشمولية المجتمع الواداني ، في تعاطيه مع مختلف الجوانب ، بما فيها جانب الدفاع ومايوفره من أمن وإستقرار، ينعكس إيجابا على مختلف نواحي الحياة بالنسبة لساكنة المدينة . شكلت المدينة حضنا لحراك معرفي عميق، فكانت مدينة علم بالمقام الأول ومركز إشعاع حقيقي ، كما جعل منها وجودها في وسط الصحراء ، نقطة مرور لمختلف القوافل ،المتجهة إلى المشرق ،فصارت بذلك محطة تجارية ومركزا اقتصاديا هاما .
نستطيع القول بأن المدينة ،علاوة على جهود مؤسسيها وأبنائهم ،حظيت ببركة وتيسير، فروافد شتى،تجمعت لتجعل من وادان ،وديان من المعرفة والأمن والرخاء والعطاء ...
أملي كبير ،في أن يكتب لمهرجان المدن القديمة ،في نسخته الجديدة ،الذي سينطلق في العاشر من الشهر الحالي ، كل النجاح والتوفيق ،وأن يستمتع ضيوف وادان وأبنائها ومحبيها ،وهم يعانقون تراثا من الأصالة والجمال ويتنسمون عبق التاريخ .