وصلنا في هذه المقالات إلي محاولة فرز عبادة الصوفية عن غيرها لوجود طقوس لها خاصة بها لا يوجد لها ذكر نص خاص بها في الشريعة الإسلامية يفهم منه جميع المسلمين تأصيلا وتوجيها بأن الله خاطب عباده للعمل به والمحاسبة عليه.
ولكن قبل قبل ذلك كله سوف يتخيل للقارئ الموريتاني عند سماع ذكر الصوفية أن هذا يعني صوفية موريتانيا ولكن الواقع أن المقالات موجهة لمناقشة الصوفية عالميا.
فالصوفية الموريتانية ما هي إلا امتداد لمؤسسات صوفية أكبر وأعمق وأكثر اتباعا من الصوفية الموريتانية كما أن وجودها داخل الدين الإسلامي وإبراز طقوسها فيه: كل ذلك له تاريخ قديم بدأ تقريبا من القرن الثاني الهجري بعد انتهاء زمن الخلفاء الراشدين.
وبذلك تكون الصوفية التي سوف أتكلم عنها هي نوع من العبادة استحسن اتخاذه منهجا بعض من المسلمين بل جعلها طريقة سالكة إلي الله بأسلوبها الخاص عندهم، تارة يكون أشخاص قلائل أو منفردين وتارة تكون مؤسسات كبيرة ولها أركانها وفروضها وسننها ومندوباتها إلي آخره، ويقول أهلها أن الأمر بها مأخوذ من تفسير النبي صلي الله عليه وسلم للإحسان، والتفسير هو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
وهذا هو نفس الشيء الذي اتخذه المتكلمون في شأن العقيدة ففي حديث النبي صلي الله عليه وسلم مع جبريل عند السؤال عن الإيمان قال : ((أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله إلي آخر الحديث))، فذهب المتكلمون إلي داخل القرآن ليفتشوا عن صفات الله وكيف يستعمل الله تلك الصفات، وهل هي جزء من ذاته أو منفصلة عن الذات الشيء الذي لا يعرفونه إلي يوم القيامة كما أخذ الصوفية نوع صوفيتهم من قوله تعالي : {{واتبع سبيل من أناب إلي }} إلي آخر الآية، وبما أن إدخال هذين الشيئين – العقيدة والعبادة – في الإسلام قد وقع في زمن الملوك والخلفاء كما يسمون أنفسهم الذين لا يتقنون فهم الإسلام ومع ذلك يجبرون علي اتباع كل من رضوا له قولا من المتكلمين أو العبادة بدون عرض ذلك علي النصوص والبحث عن تأصيلها حتى وصلت إلينا وستبقي كذلك إلي يوم القيامة لسنة الله في أنه زين لكل أمة عملهم ثم إلي ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون أي بصحته أو فساده، فيجازيهم عليه.
ولأجل هذه الظاهرة أعلاه فقد أدخل عبد الرحمن بن عاشر هاتين الفكرتين في مصنفه ملزما بها المسلمون وكأنها رديفة قوله تعالي : {{لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر}}، وسبب ذلك أنه في زمن ابن عاشر قد تحكمت في المسلمين اعتقاد هذه المستخرجات من البعض في الإسلام.
فقال : في عقد الأشعري وفقه مالك وفي طريقة الجنيد السالك
ومعلوم عند كل مسلم اختلاف مبدإ هذه الأصول : فالعقيدة والعبادة لا اجتهاد في أصولهما لأنها إما اعتقاد في القلب لا يتغير وأما العبادة فقد قام بها النبي صلي الله عليه وسلم ولا يمكن الزيادة عليها فهي سنة متبعة لا تتغير إلا اجتهادا وحرم علي ذلك علي المؤمنين.
أما الفقه بما أنه متعلق بالحياة الدنيوية لعمل الإنسان الدنيوي يتغير حسب الزمان والمكان فإن أصوله القرآنية والأحاديث الصحيحة لا تتغير، ومباحاته ومحرماته المنصوصين لا تتغير كذلك، وأما ما يفهم العلماء من اللغة العربية التي نزل بها القرآن والتي هي نفسها لها أساليب يجب مراعاتها مثل العموم والخصوص والاستثناء والحقيقة والمجاز ومعاني الحروف العاملة فيما بعدها كل ذلك وردت عموميات من الأحاديث الصحيحة بل وردت آيات تخفف الواجبات إذا اقتضي الأمر وتركت ذلك لمن يستنبطون الأحكام من النصوص عند النظر فيها بكثير من القواعد الفقهية التي وضعها الأصوليون بخلاف العقيدة والعبادة فإنهما توقيفيتان علي اعتقاد رسول الله صلي الله عليه وسلم وعبادته.
فالعقيدة يقول الله في حسم الفكر فيها : {{لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار}}، ويقول تعالي : {{ليس كمثله شيء}}، فأي شيء توفي رسول الله صلي عليه وسلم ولم يخبر به عن الله فكيف الحصول علي خبره بعد ذلك؟.
أما العبادة فيقول الله تعالي : {{اتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون}}، ويقول تعالي : {{وما آتيكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}}، فأي عبادة مطلقة أو محدد عددها ووقتها كما سوف نكتب ذلك بالتفصيل بإذن الله عندما أتكلم علي طقوس الصوفية ككل ولكن بما أن أعمالها أي الصوفية مشتبهة وغير متشابهة فسيفهم منها القارئ بإذن الله ما ينير له المراد من ألفاظها إلي آخره.
وكما أكرر دائما فإني ولله الحمد أومن بما جاء في هذا القرآن بلا زيادة ولا نقصان وأنه سيقع يوم القيامة كما هو صورة طبق الأصل لا كما أجالته الشياطين لتضل به المسلمين عن الصراط المستقيم، ونؤمن كذلك بأن المولي عز وجل لم يأخذ إليه نبيه محمد صلي الله عليه وسلم عن الدنيا حتى بين لأمة دعوته جميع ما أرسله الله به إليهم من غير أن يكتم منه كلمة واحدة أو أن يخص بها أحدا، ففحوي قوله تعالي :{{يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته}}، مع فحوي الحديث الصحيح عن النبي صلي الله عليه وسلم في حجة الوداع عندما أشهد آلآف العدول من الصحابة أنه بلغهم ما أرسل به إليهم فشهدوا جميعا بذلك، فلم يبق للخارج عن النصوص التي جاء بها النبي صلي الله عليه وسلم إلا أن يأتي بدليل عمله ذلك ولا دليل بعد وفاته صلي الله عليه وسلم لا بنزول آية بعد وفاته ولا بقول حديث أيضا بعدها.
فقوله تعالي : {{يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وبنذرونكم لقاء يومكم هذا }} فهم يقولون {{بلي}} ولكن في الآخرة، وفي آية أخري {{ولقد جئناهم بكتاب فصلناه علي علم}} إلي آخر الآية.
ونتيجة لوضوح هذا التفصيل من الله لعباده فإني أنبه الجميع بقوله تعالي : {{نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم}} فأنا أفعلها لأنبه بها كل مسلم يخاف الوقوف بين يدي الله منفردا ولا بد {{ولقد جئتمونا فرادي كما خلقناكم أول مرة}}.
فهذه الآيات أعلاه يفهم منها أن ربنا غفور رحيم ودل علي ذلك بقوله تعالي : {{إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا }} إلي قوله تعالي : {{نزلا من غفور رحيم}}، كما أن لازم قوله تعالي :{{وأن عذابي هو العذاب الأليم }} هو قوله تعالي : {{الذين يحشرون علي وجوههم إلي جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا}}، وبناء علي ذلك فأنا لا أٍستحي أن أعيد هذه الايات المبينة لسعة رحمة الله وشدة عذابه الموصوف كل منهما في القرآن لأقول لأخي المسلم : النجاة في الاستقلال الأخروي عن كل أحد باتباع ما جاء به محمد صلي الله عليه وسلم وما ثبت عنه وذلك للمسلمات التالية :
- أولا : تحذير الإسلام من البدعة ولو في العبادة بعد وفات النبي صلي الله عليه وسلم (لا يعبد الله إلا بما شرع).
- ثانيا :من مات منا لا يعود ليخبرنا بالعمل الصالح من الفاسد ولا ليصلح هو وجده فاسدا فالله يقول : {{استجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مرد له من الله ما لكم من ملجإ يومئذ وما لكم من نكير}}.
وإلي المقال القادم بإذن الله في الصوفية وأركانها إلي آخره.