نسائم الإشراق، الحلقة رقم (1766) 20 ديسمبر2021م، 16جمادى الأولى 1443هـ، فقه الوسطية الإسلامية والتجديد، معالم ومنارات، الشيخ يوسف القرضاوي، الحلقة رقم (40)

الفصل الرابع تصورات خاطئة حول مفهوم الوسطية

 

1- التصور الخاطئ الأول ورده:

بعض الإخوة من المتشددين الحرفيين، رفضوا منهج الوسطية، وقالوا: ليس هناك شيء اسمه الوسطية، إنما هناك شيء اسمه "الدليل الشرعي" فإذا أدّانا الدليل الشرعي إلى أمر فهو الواجب اتباعه، سواء كان وسطا أم طرفا.

وهؤلاء لم يفهموا ما نريده بالوسطية، فنحن لا نخالف الدليل الشرعي بحال، بل نقول بكل وضوح: إننا استقرأنا الأدلة الشرعية من آيات القرآن،  ومن أحاديث الرسول،  ومن إجماع الأمة، ومن مقاصد الشريعة، ومن المقاييس الصحيحة،  ومن أقوال الأئمة المعتبرين لدى الأمة، فوجدناها كلها تدلّ على هذا الاتجاه الوسط، الذي يرفض الغلو والتفريط، أو الطغيان والإخسار. وأنّ هذا هو منهج الإسلام، ومنهج أمته، وهذا ما قرره علماؤه وأئمته في مختلف العصور.

وقد نقلنا في الفصول الماضية من أقوال أئمة الإسلام السابقين واللاحقين، والمعاصرين ما جلى هذه القضية، حتى رأيناها ناصعة كالشمس في الضحى، ليس دونها سحاب.

ولا بأس أن نورد هنا بعضا منها .

من كلام ابن تيمية:

يقول الإمام ابن تيمية:

"وقد خصّ  الله تبارك وتعالى محمد اً صلى الله عليه وسلم بخصائص ميّزه بها على جميع الأنبياء والمرسلين، وجعل له شرعة ومنهاجاً، أفضل شرعة وأكمل منهاج مبين.

كما جعل أمّته خير أمّة  أُخرجت للناس، هداهم الله بكتابه ورسوله لما اختلفوا فيه من الحق قبلهم، وجعلهم وسطاً عدلاً  خيارا. فهم وسط في توحيد الله وأسمائه وصفاته، وفي الإيمان برسله وكتبه وشرائع دينه، من الأمر والنهي والحلال والحرام، فأمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر، وأحلّ  لهم الطيّبات وحرّم عليهم الخبائث.

لم يحرّم عليهم شيئا من الطيبات كما حرم على اليهود، ولم يحلّ  لهم شيئا من الخبائث كما استحلتها النصار ى.

ولم يضيّق عليهم باب الطهارة والنجاسة كما ضيّق على اليهود، ولم يرفع عنهم طهارة الحدث والخبث كما رفعته النصار ى، فلا يوجبون الطهارة من الجنابة ولا الوضوء للصلاة ولا اجتناب النجاسة في الصلاة، بل يعد كثير من عبادهم مباشرة النجاسات من أنواع القرب والطاعات، حتى يقال في فضائل الراهب: (له أربعون سنة ما مسّ  الماء) ولهذا تركوا الختان مع أنه شرع إبراهيم الخليل عليه الصلاة السلام وأتباعه.

واليهود عندهم إذا حاضت المرأة، لا يواكلونها ولا يشاربونها، ولا يقعدون معها في بيت واحد، والنصارى لا يحرّمون وطء الحائض.

وكان اليهود لا يرون إزالة النجاسة. بل إذا أصاب ثوب أحد منهم قرضه بالمقراض، والنصارى ليس عندهم شيء نجس يحرم أكله أو تحرم الصلاة معه.

وكذلك المسلمون وسط في الشريعة، فلم يجحدوا شرعه الناسخ لأجل شرعه المنسوخ، كما فعلت اليهود، ولا غيّروا شيئا من شرعه المحكم، ولا ابتدعوا شرعاً لم يأذن به الله، كما فعلت النصار ى، ولا غلوا في الأنبياء والصالحين كغلو النصار ى، ولا بخسوهم حقوقهم كفعل اليهود، ولا جعلوا الخالق سبحانه متصفاً بخصائص المخلوق ونقائضه ومعايبه – من الفقر والبخل والعجز – كفعل اليهود، ولا المخلوق متّصفاً بخصائص الخالق سبحانه التي ليس كمثله فيها شيء كفعل النصار ى. ولم يستكبروا عن عبادته كفعل اليهود، ولا أشركوا بعبادته أحدا كفعل النصار ى) [انظر الجواب الصحيح لابن تيمة (1/7،6)].