سُئلتُ عن رأيي في النَّشيد الجديد الَّذي لا أظُنُّ حاذِقا بالأدب أَوَى إلى ظِلالِه, ولا مُحبًّا له بَلَّ ذَوقَه بِبَلالِه يَرضَى عنه, ويُجيزُه نَشيدا يَرفعُ الهِمَم, ويُشعِل العَزائم, ويرسُم الطُّمُوح, ويَتغنّى بالمفاخر فيُشنِّف بها الآذان..إلا ما أُقحِم فيه من القرءان .
أمَّا شكلُه ففيه من عُيُوب القافية كثيرٌ من السِّناد, كان تألُّب الشُّعراء والغاوِين وَوقتُهم الطَّويلُ كافيَين لتَجنُّبِه, وهو عيب وإن وَقع في شعر المُتقدِّمين.
ومن ممَيِّزات قَصيدَة العلاَّمة بابه أنّها سَلِمت من سِناد الإشباع وغيره, فحافظت على الكسرة, حركةِ الحَرف الَّذي قبل الرَّوي: "ناصِرا" "المناكِرا" "دائِرا".. مع أنَّه لم يُنشئها لتكون نَشيدا.
أمَّا في هذا النَّشيد فاختلفت كثيرا حركة الحرف الَّذي قبل الرَّوي فكان السِّناد: "تغرُبِ" "الأعذَبِ" "مُستَقرَّا" "يُسرَا" "السَّما" "الحِمَى"
وقد كان السَّعي لتيسير التَّغنِّي به سَببا في ما يُمكن اعتِبارُه عيوبا إذا نظرنا بعين الأصالة, وذلك لتغيُّر حرف الرَّوي وهو "الإكفاء" أو "الإجازة" أو تغيُّر حركته وهو "الإصراف".
وكان في بحر المتقارب ومناسبته للحماسة وقابليته للتَّغنِّي به -ككُلِّ بُحور الشِّعر-ما يُغْنِي عن كلِّ ذلك, وقد سلِم منه النَّشيد الأوَّل ولم يَمنع من التَّغنِّي به.
أما من حيثُ المضمون فقد غابت عنه المعاني المُوغلة في البلاغة والمؤجِّجة للحماسة, فلم يَقُل على لسان المسلم في حبِّه لدينه ووَطنِه قريبا من: "يُحبُّك لَحمُه ودَمُهْ" دَلالةً وعُمقا.
ولم يقترب في الفخر من مَدارِ قول ابن النَّطَّاح:
لَو صالَ من غَضبٍ أبُو دُلَفٍ على..
بِيضِ السُّيوف لَذُبنَ في الأغمادِ.
وإنَّما وردَ فيه تكلُّف في الصِّناعة, وتعسُّف في التّضمين وتنافر في المناسبات, كأنَّما تعطّل في تَيهاءَ أَفلت عن سمائها دَراري المعانِي المقتَدَى بها.
فمن ذلك قولهم في لازمة النَّشيد: "ونَكسُو رُباك بِلون الأمل" فكسوة الأرض بلون الأمل, أو زَرعُها بمائه, وتزيينُها بحُليِّه, وإطرابُها بصوته..كلُّ ذلك إِلهاءٌ لا يُفيد, فليس المقصود مجرَّد زراعة الأمل أو صناعته, فكم من وَعد أحيَى الآمال فلم يُنجَز, وكم مِن بَرق استبشَرَ النَّاس به فكان خُلَّبا, وإنَّما نَأمل "ثمراتٍ مختَلِفا ألوانُها" فلو أُلبِست الرُّبى "ثِمار الأمل" لتوجَّه ذلك.
ومنه قولهم: "نماك الأماجدُ مِن يَعرُبِ..لإفريقيا.." فنَماه الله إذا رَفعه, ونماه فلانٌ إذا نَسبه ورفعه في حَسبه, فالمفهوم أنَّ العربَ نسبت البلاد ورفعت حسَبها إلى إفريقيا, وهذا لم يَفعلهُ العربُ وحدَهم, وإن قُصد بتخصيص العرب بالذِكر أنّهم سُكان البلاد وأهلُها وحدَهم فلا يستقيم أيضا حتَّى يَؤوبَ القارظان.
ومن ذلك قولهم: "نُقاومه حيثُ جاسَ ومَرَّا" فكلمة "نُقاومه" لا تحمل قدسية نُجاهدُه, ولا تعبِّر إلا عن الدَّفع لا عن جهاد الطَّلب, فكان فيها تقصير لذروة سَنام الإسلام, وإخفاء لرَمز عزَّة الكُماة الفاتحين.
أمَّا جاسَ فيَدورُ معناها حول الطّلب والاستقصاء فيه ذَهابا وجَيئة, وفي قوله تعالى (فجاسُواْ خلالَ الدِّيار) قال: ابنُ كثير: "أي: تملَّكوا بلادَكم وسَلكوا خلالَ بُيوتِكم, أي بينَها ووسطها, وانصَرَفوا ذاهبين وجائين لا يَخافون أحدا"
فلا ينبغي ذِكرُ هذه الكلمة الموغلة في الضَّعف والهزيمة في هذا الموضع المُناسِب لتَخويف الأعداء بما هو –على الأقلِّ- دُون قول ابن هانِئ:
وأَخفتَ أهلَ الشِّرك حتَّى إنّه.. لتَخافُك النُّطفُ التي لم تُخلَقِ.
وأما "مَرَّ" فإنّه فعل ورد ذِكره في القرءان كثيرا, لكن إيرادَه في هذا السياق ضعيف, فليسَ كلُّ مَرٍّ للعدُو يستوجبُ مقاومتَه, بل القضاء عليه أحيانا كثيرة دُون تكلُّف, كما أنَّها غريبة على هذا المقام, ولذلك ذَكَّرتني ب: قول التَّلاميذ لِمَن يَمرُّ "مُر"..
وقد صفا لي قَولُهم:
"قَفوْنا الرَّسول بنهجٍ سَما..
إلى سِدرَة المَجدِ فوقَ السَّما"
ولو ذَكروا الصَّلاة عليه صَلَّى الله عليه وسلَّم لكان أصفَى, لما فيه من قَفوه صَلَّى الله عليه وسلَّم, وإشاعة الصَّلاة عليه عندَ ذِكره.
ولكن عكَّر بعضَ صَفوه قولُهم: "حَجزنا الثُّريَّا لَنا سُلَّما.." فهو تأسيس, وذِكرُ النَّبِيِّ الأكرم صلَّى الله عليه وسلَّم يُؤسَّس عليه ولا يُبنى الكلام بعدَه دونَه, والأقوم "حَجزنا الثُّريَّا "به" سُلَّما.." فالمفهوم من حَجزنا يُغني عن قولهم "لنا" وإن أفادت الاختصاص أو الملكية.
ثمّ إنَّ النَّشيد الوطنيَّ لا يَهمُّني لكونِه مِن سَنَن المَتبوعين غِوايةً, ولعلمي أنَّ ما لم يَصنَعه في النُّفوس كتابُ الله وسنّةُ رَسُوله الأكرم صلَّى الله عليه وسلَّم من معاني الفضيلة والسُّؤدَد فلن يَصنعه فيها نشيد.
ولكنْ للشِّعر تأثيرٌ على المواقف, ومهما نَثر البُلغاء سِحرَ البيان, ونَظم الشُّعراء قِطع الجُمان فلا يبرُز صَريحُ تَأثيره إلَّا إذا وافق الشَّريعة ولامسَ من أهلها جَواذِب الإحساس, كما يُروى عن معاوية أنّه مَنعه من الفِرار يَومَ صفِّين قولُ ابن الإطنابة:
أَبَت لي عِفَّتي وأَبَى إبَائي..
وأَخذِي الحَمدَ بالثَّمن الرَّبيحِ.