التعامل مع المشكلة الاقتصادية (الندرة النسبية) من منظور الاقتصاد الإسلامي
" تدبير الموارد والعدالة في التوزيع والرفع من قيمة العمل".
إن النظام الاقتصادي الإسلامي يمثل رؤية تنظم سلوك الفرد والمجتمع من حيث التصرفات الاقتصادية المنضبطة بقواعد الشرع العامة.
ولما كان علم الاقتصاد كغيره من العلوم الاجتماعية يهتم بدراسة السلوك الإنساني، أي كيف يحصل الإنسان على وسائل عيشه واستمرار وجوده، والإسلام جاء لتنظيم هذا السلوك وفق المنهج الرباني كان هناك ترابط بين الأمرين، فالنظريات الاقتصادية لا تصادم التشريعات الإسلامية من حيث المبدأ ما لم تشتمل على محظور حظره الشارع الحكيم، فهذه النظريات إنما ظهرت نتيجة لتطور الإنسان والمجتمع الذي يعيش فيه، وهذا التطور يعود إلى مجموعة من الاجتهادات الفكرية التي تخضع للتغيرات في الظواهر الاقتصادية في مجتمعات معينة عبر التاريخ خضعت لطبيعة التعاملات بين الأفراد، وقد لاقت اهتماما بالغا من قبل المفكرين، ما أدى إلى عناية فائقة بشقيها الجزئي والكلي من خلال دراسة سلوك الفرد والمجتمع وتصرفاته الاقتصادية من حيث الإنتاج، ولأنه؛ ما من منهج اقتصادي إلا وله رؤيته الخاصة وفق القواعد والضوابط الناظمة لمميزاته، كان لزاما أن نتعرف على نظرة نظام المشاركة المستمد من الشريعة الإسلامية لآليات تدبير الأموال وطرق التعامل مع الثروة والموارد واشتراك الجميع في حق الانتفاع والحصول على نصيب الفرد من الثروات الطبيعية.
ولتوضيح العلاقة بين الرؤية الإسلامية لعلم التدبير الاقتصادي، ومفهوم المشكلة الاقتصادية، لا بد في البداية من الحديث عن موقف النظام الإسلامي من الاقتصاد ليتبين المغزى من ربط هذه المواضيع بعضها ببعض.
إن الإسلام لا يجانب العلم لأن العلم يهتم بالحقيقة والإسلام أصل لكل حقيقة، والأصل أساس الفرع ولكن الفرع قد يعبر عن ظواهر إنسانية تتأثر بالبيئات والمذاهب والمناهج الاقتصادية لمجتمعات متباينة الثقافات والممارسات.
ويعتبر علم الاقتصاد أحد العلوم الاجتماعية التي تهتم بدراسة السلوك الإنساني، أي كيف يحصل الإنسان على وسائل عيشه واستمرار وجوده؟ والبحث عن الطرق الأمثل للموازنة بين المحدود من الموارد واللا محدود من الحاجات، وفق الرؤية الاقتصادية لسدنة الفكر الاقتصادي الحديث بقسميه الرأسمالي والاشتراكي.
وتبعا لما تقرر؛ يمكن القول أن السلوك الاقتصادي رافق الإنسان منذ ظهوره الأول، حيث سعى الإنسان القديم أولا من أجل إيجاد وتوفير الوسائل التي تكفل عيشه واستمرار وجوده، تلك الوسائل التي تتمثل بالحصول على الغذاء والملبس والمسكن وبشكلهما الأولي والبدائي.
وبتطور الحياة وتعقدها تدريجيا وتكون المجتمعات، ثم ظهور التنظيمات السياسية والاجتماعية المختلفة، واعتبار وظائفها الأساسية، والتي كان من مهامها الأولى إيجاد الوسائل التي تكفل معيشة أفرادها، وعلى الرغم من بساطة المشكلة الاقتصادية التي واجهت الإنسان في المجتمعات القديمة، إلا أن جوهر المشكلة هو نفسه الذي يواجه الإنسان في الوقت الحاضر.
ولقد واجهت الأنظمة الاقتصادية الرأسمالية والاشتراكية المشكلة الاقتصادية بوسائل مختلفة تتمثل في الاعتماد على جهاز الثمن وآلية السوق أو على نظام التخطيط المركزي، إلا أن للنظام الاقتصادي الإسلامي وسائله الخاصة لتفسير المشكلة الاقتصادية، فقد اعتمد على قوى السوق على الرغم مما لها من حسنات وسيئات، ولكن النظام الإسلامي حين اعتمد على قوى السوق فقد نقاها مما شابها من شوائب في ظل النظام الرأسمالي، وفي نفس الوقت فقد أقام الإسلام من الحاكم رقيبا على النشاط الاقتصادي، لذلك يلاحظ أن النظام الإسلامي يجعل الباب مفتوحا أمام الملكية الخاصة لتساهم وتبدع وتبتكر وتربح، ولكن في ظل معايير تجعل أنشطة الفرد تصب كلها في النهاية في مجال المجتمع وتعمل على صالحه وصالح المجموع.
إن المشكلة الاقتصادية في الإسلام لا تكمن في الندرة النسبية أو في الحاجات الغير محدودة والمتجددة وقلة الموارد، وإنما تكمن في الكسل وعدم العدالة في التوزيع؛ فالمشكلة الاقتصادية: هي عدم قدرة المجتمع على تلبية حاجات أفراده التي تتميز بأنها غير محدودة ومتزايدة ومتجددة، ومتداخلة، نظرا للندرة النسبية للموارد الاقتصادية.
وهذا ليس هو التفسير الإسلامي لمشكلة توزيع الثروة لأن الله تعلى خلق الإنسان وخلق له ما في السماوات والأرض من رزق وسخر له خيرات الأرض وإنما عليه أن يعمل ويستخرج هذه الخيرات وكذلك على الدولة أن تسهر على التوزيع العادل لخيرات المجتمع وثرواته.
إن نظرة الإسلام الاقتصادية لا تعتبر أن هناك قلة أو ندرة في الموارد فالله تعالى خلق الخلق وتكفل لهم بالرزق قال في كتابه العزيز: ﴿ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾.
فقد أخبر تعالى أنه تكفل بأرزاق المخلوقات من سائر دواب الأرض صغيرها وكبيرها بحريها وبريها.
كما أن مواجهة صعوبة إشباع الحاجات إنما تتم من خلال التوزيع العادل للثروة، وذلك من خلال تسيير الموارد تسييرا رشيدا، ولهذا حذر الإسلام من عدم الأمانة في تسير الموارد العامة، قال الله تعالى: ﴿وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ﴾، وهذا تهديد ووعيد أكيد.
و قد وردت السنة بالنهي عن ذلك، فقد روى الإمام أحمد عن أبي حميد الساعدي قال: (( استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من الأزد يقال له: ابن اللتبية على الصدقة، فجاء فقال: هذا لكم، و هذا أهدي لي، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فقال: { ما بال العامل نبعثه فيجيء فيقول: هذا لكم وهذا أهدي لي، أفلا جلس في بيت أبيه و أمه فينظر أيهدي إليه أم لا؟ و الذي نفس محمد بيده لا يأتي أحد منكم منها بشيء إلا جاء به يوم القيامة على رقبته}. ثم ذكر تمام الحديث، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطيه، ثم قال: { اللهم هل بلغت} ثلاثا)).
وعلى ما سبق يتبين لنا أن الإسلام نظر إلى المشكلة الاقتصادية نظرة متوازنة تعتمد على التوزيع العادل للثروة والدعوة إلى العمل لتحصيل المال والسعي في طلب الحلال من الرزق، قال الله تعالى:﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾.
وروى الإمام أحمد عن الزبير بن العوام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لأن يحمل الرجل حبلا فيحتطب به ثم يجيء فيضعه في السوق ثم يستغني به فينفقه على نفسه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه}.
فالإسلام حض على العمل ورغب فيه لكي يكون الإنسان قادرا على الإنفاق على نفسه وعياله.
وذلك يعني أن المال ليس المصدر الوحيد للكسب، وأن المال لا يلد المال، بل لا بد من مشاركة العمل في العملية الإنتاجية وذلك يعني مشاركة العمل للمال في العملية التنموية، ولا يعني هذا منع قبول المكاسب الوارد من غير جهد كالهبة والإرث والصدقة، لأنها في حقيقتها قاصرة، فهي مصادر غير مضمونة، وفي حاجة إلى الجهد للحصول على الكسب، وإلا فإن الزكاة ستأكلها.
وتأسيسا على ما سبق، فإن من قدم عملا وبذل جهدا استحق المردود، وله الحق في المطالبة فيه، أما الذي لم يقدم العمل ولم يبذل جهدا فليس من حقه الحصول على العائد ولا المطالبة به.
وكذا يتأكد مبدأ حماية الأموال العامة، والعمل على التوزيع العادل للثروة، وتحقيق تمام الكفاية لكل أفراد المجتمع، ورد المظالم ومنع أكل أموال الناس بالباطل، والمحافظة على الموارد المتجددة صونا لحقوق الأجيال اللاحقة كما فعل الفاروق عمر رضي الله عنه في قضية سواد العراق..
وجوهر المسألة أن مبدأ "الندرة النسبية"؛ الذي يرى أن البشر يتزايدون وفق معادلة هندسية تؤدي إلى التكاثر، بشكل تعجز الموارد الطبيعية عن تلبية حاجاته اللا متناهية واللا محدودة، لا وجود له من منظور الاقتصاد الإسلامي؛ لأن الله تعالى قدر الأقوات وبارك في ما يخرج من الأرض بحكمته، قال الله تعالى:﴿وَبَـٰرَكَ فِیهَا وَقَدَّرَ فِیهَاۤ أَقۡوَ ٰتَهَا فِیۤ أَرۡبَعَةِ أَیَّامࣲ سَوَاۤءࣰ لِّلسَّاۤىِٕلِینَ﴾. [فصلت ١٠].
يقول ابن جزي المالكي في تفسيره:
" ﴿وَبَارَكَ فِيهَا﴾ أكثر خيرها ﴿وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا﴾ أي أرزاق أهلها ومعاشهم وقيل: يعني أقوات الأرض من المعادن وغيرها من الأشياء التي بها قوام الأرض، والأول أظهر ﴿فِيۤ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ﴾ يريد أن الأربعة كملت باليومين الأولين، فخلق الأرض في يومين وجعل فيها ما ذكر في يومين، فتلك أربعة أيام وخلق السمٰوات في يومين فتلك ستة أيام حسبما ذكر في مواضع كثيرة، ولو كانت هذه الأربعة الأيام زيادة على اليومين المذكورين قبلها لكانت الجملة ثمانية أيام، بخلاف ما ذكر في المواضع الكثيرة ﴿سَوَآءً﴾ بالنصب مصدر تقديره: استوت استواء قاله الزمخشري، وقال ابن عطية انتصب على الحال للسائلين قيل: معناه لمن سأل عن أمرها، وقيل: معناه للطالبين لها، ويعني بالطلب على هذا حاجة الخلق إليها، وحرف الجر يتعلق بمحذوف على القول الأول تقديره: يبين ذلك لمن سأل عنه ويتعلق بقدّر على القول الثاني".
فلا نقص في الأرزاق من جهة الإنشاء والتقدير، وإنما مرد الخلل الحاصل يكمن في كيفية التدبير والترشيد والتوزيع العادل للثروة وتجذر سلوك الكسل والخمول والقعود، وغياب تكريس قيم العمل والسعي وتحري الكسب الطيب..
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.