قال الأستاذ الإمام بعد إيراد هذا: ولكن يقال لم اختير لفظ الوسط على لفظ الخيار مع أن هذا هو المقصود، والأول إنما يدل عليه بالالتزام؟ والجواب من وجهين: "أحدهما": أن وجه الاختيار هو التمهيد للتعليل الآتي; فإن الشاهد على الشيء لا بد أن يكون عارفا به، ومن كان متوسطاً بين شيئين فإنه يرى أحدهما من جانب وثانيهما من الجانب الآخر، وأما من كان في أحد الطرفين فلا يعرف حقيقة حال الطرف الآخر، ولا حال الوسط أيضا.
"وثانيهما": أن في لفظ الوسط إشعارا بالسببيّة، فكأنه دليل على نفسه; أي:
أن المسلمين خيار وعدول; لأنهم وسط، ليسوا من أرباب الغلو في الدين المفرطين، ولا من أرباب التعطيل المفرطين، فهم كذلك في العقائد والأخلاق والأعمال.
ذلك أن الناس كانوا قبل ظهور الإسلام على قسمين: قسم تقضي عليه تقاليده بالمادية المحضة، فلا هم له إلا الحظوظ الجسدية كاليهود والمشركين، وقسم تحكم عليه تقاليده بالروحانية الخالصة وترك الدنيا وما فيها من اللذات الجسمانية، كالنصارى والصابئين وطوائف من وثنيي الهند أصحاب الرياضات.
وأما الأمّة الإسلامية فقد جمع الله لها في دينها بين الحقين: حق الروح، وحق الجسد، فهي روحانية جسمانية، وإن شئت قلت إنه أعطاها جميع حقوق الإنسانية، فإن الإنسان جسم وروح، حيوان وملك، فكأنه قال: جعلناكم أمة وسطاً تعرفون الحقين، وتبلغون الكمالين {لِتكَونوُا شُهَداَءَ} [البقرة:143} بالحق {عَلَى الناَّسِ} [البقرة:143] الجسمانيين بما فرّطوا في جنب الدين، والروحانيين إذ أفرطوا وكانوا من الغالين، تشهدون على المفرّطين بالتعطيل القائلين: {مَا هِيَ إِلاَّ حَياَتنَا الدنُّياَ نمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يهُلِكُنَا إِلَّا الدهَّرُ} [الجاثية:24] بأنهم أخلدوا إلى البهيمية، وقضوا على استعدادهم بالحرمان من المزايا الروحانية، وتشهدون على المفرطين بالغلو في الدين القائلين: إن هذا الوجود حبس للأرواح وعقوبة لها. فعلينا أن نتخلص منه بالتخلي عن جميع اللذات الجسمانية وتعذيب الجسد، وهضم حقوق النفس وحرمانها من جميع ما أعدّه الله لها في هذه الحياة، تشهدون عليهم بأنهم خرجوا عن جادّ ة الاعتدال، وجنوا على أرواحهم بجنايتهم على أجسادهم وقواها الحيوية، تشهدون على هؤلاء وهؤلاء، وتسبقون الأمم كلها باعتدالكم وتوسطكم في الأمور كلها، ذلك بأن ما هديتم إليه هو الكمال الإنساني الذي ليس بعده كمال; لأن صاحبه يعطي كل ذي حق حقه، يؤدّي حقوق ربه، وحقوق نفسه، وحقوق جسمه