الشهيد سيد قطب وحديثه عن وسطية الأمة:
وربما كان من الغريب هنا أن يذكر الشهيد سيد قطب، وهو محسوب على الغلاة، ومع هذا فرض عليه القرآن، وطبيعة الإسلام إلا أن يتحدث عن "وسطية الأمة" بقلمه البليغ في تفسيره "في ظلال القرآن" فيبدع ويؤثر. قال رحمه الله:
"إنها الأمّة الوسط التي تشهد على الناس جميعاً، فتقيم بينهم العدل والقسط، وتضع لهم الموازين والقيم، وتبدي فيهم رأيها فيكون هو الرأي المعتمد، وتزن قيمهم وتصوراتهم وتقاليدهم وشعاراتهم فتفصل في أمرها، وتقول: هذا حقّ منها وهذا باطل. لا التي تتلقّى من الناس تصوراتها وقيمها وموازينها. وهي شهيدة على الناس، وفي مقام الحكم العدل بينهم .. وبينما هي تشهد على الناس هكذا، فإن الرسول هو الذي يشهد عليها، فيقرر لها موازينها وقيمها، ويحكم على أعمالها وتقاليدها، ويزن ما يصدر عنها، ويقول فيه الكلمة الأخيرة .. وبهذا تتحدّد حقيقة هذه الأمة ووظيفتها ..
لتعرفها، ولتشعر بضخامتها، ولتقدّ ر دورها حقّ قدره، وتستعدّ له استعداداً لائقاً..
وإنها للأمة الوسط بكل معاني الوسط سواء من الوساطة بمعنى الحسن والفضل، أو من الوسط بمعنى الاعتدال والقصد، أو من الوسط بمعناه المادي الحسي..
{أمَّة وَسَطا}.. في التصوّر والاعتقاد.. لا تغلو في التجرّد الروحي ولا في الارتكاس المادي. إ نّما تتبع الفطرة الممثلة في روح متلبس بجسد، أو جسد تتلبس به روح. وتعطي لهذا الكيان المزدوج الطاقات حقه المتكامل من كل زاد، وتعمل لترقية الحياة ورفعها في الوقت الذي تعمل فيه على حفظ الحياة وامتدادها، وتطلق كل نشاط في عالم الأشواق وعالم النوازع، بلا تفريط ولا إفراط، في قصد وتناسق واعتدال.
{أمَّة وَسَطا}.. في التفكير والشعور.. لا تجمد على ما علمت وتغلق منافذ التجربة والمعرفة ... ولا تتبع كذلك كل ناعق، وتقلد تقليد القردة المضحك.. إنما تستمسك بما لديها من تصورات ومناهج وأصول، ثم تنظر في كل نتاج للفكر والتجريب، وشعارها الدائم: الحقيقة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها، في تثبّت ويقين.
{أمَّة وَسَطا}.. في التنظيم والتنسيق.. لا تدع الحياة كلها للمشاعر، والضمائر، ولا تدعها كذلك للتشريع والتأديب. إنما ترفع ضمائر البشر بالتوجيه والتهذيب، وتكفل نظام المجتمع بالتشريع والتأديب، وتزاوج بين هذه وتلك، فلا تكل الناس إلى سوط السلطان، ولا تكلهم كذلك إلى وحي الوجدان.. ولكن مزجا من هذا وذاك.