أمَّة وَسَطا}.. في الارتباطات والعلاقات.. لا تلغي شخصية الفرد ومقوّماته، ولا تلاشي شخصيته في شخصية الجماعة أو الدولة، ولا تطلقه كذلك فرداً أثراً جشعاً لا همّ له إلا ذاته.. إنما تطلق من الدوافع والطاقات ما يؤدي إلى الحركة والنماء، وتطلق من النوازع والخصائص ما يحقق شخصية الفرد وكيانه. ثم تضع من الكوابح ما يقف دون الغلو، ومن المنشطات ما يثير رغبة الفرد في خدمة الجماعة، وتقرّر من التكاليف والواجبات ما يجعل الفرد خادماً للجماعة والجماعة كافلة للفرد في تناسق واتساق.
{أمَّة وَسَطا}. في المكان.. في سرة الأرض، وفي أوسط بقاعها. وما تزال هذه الأمة التي غمر أرضها الإسلام إلى هذه اللحظة هي الأمة التي تتوسط أقطار الأرض بين شرق وغرب، وجنوب وشمال، وما تزال بموقعها هذا تشهد الناس جميعاً، وتشهد على الناس جميعا ً، وتعطي ما عندها لأهل الأرض قاطبة، وعن طريقها تعبر ثمار الطبيعة وثمار الروح والفكر من هنا إلى هناك، وتتحكّم في هذه الحركة ماديها ومعنويها على السواء.
{أمَّة وَسَطا}.. في الزمان.. تنهي عهد طفولة البشرية من قبلها، وتحرس عهد الرّشد العقلي من بعدها. وتقف في الوسط تنفض عن البشرية ما علق بها من أوهام وخرافات من عهد طفولتها، وتصدّها عن الفتنة بالعقل والهوى، وتزوج بين تراثها الروحي من عهود الرسالات، ورصيدها العقلي المستمر في النماء، وتسير بها على الصراط السوي بين هذا وذاك.
وما يعوق هذه الأمة اليوم عن أن تأخذ مكانها هذا الذي وهبه الله لها، إلا أنها تخلت عن منهج الله الذي اختاره لها، واتخذت لها مناهج مختلفة ليست هي التي اختارها الله لها، واصطبغت بصبغات شتى ليست صبغة الله واحدة منها! والله يريد لها أن تصطبغ بصبغته وحدها.
وأمّة تلك وظيفتها وذلك دورها، خليقة بأن تحتمل التبعة وتبذل التضحية، فللقيادة تكاليفها، وللقوامة تبعاتها، ولا بد أن تفتن قبل ذلك وتبتلى، ليتأكد خلوصها لله وتجردها، واستعدادها للطاعة المطلقة للقيادة الراشدة. [في ظلال القرآن ( 2/132-130) طبعة دار الشروق القاهرة]
هذه كلمات سيد قطب في "وسطية الأمة" واضحة نقيّة، رغم ما له رحمه الله من جنوح إلى التّكفير في مناسبات أخرى، غفر الله له. ناقشناه فيها في مواضع أخرى. ولكن وسطية الإسلام ووسطية أمّته، أبتا إلا أن يعبّر عنها بهذا البيان الناصع.
أحسب بعد هذه النقول كلها من القدماء والمحدثين والمعاصرين قد تبيّن لنا معنى الوسطية التي نقصدها، والتي ندعو إليها.