من داخل أحد محلات أكبر تجمع لمعروضات الصناعة التقليدية بانواذيبو يتربع الخمسيني محمد ولد أكفيف وسط أكوام من قطع الخشب والحديد الصدئ، وبعض المعدات المنزلية التي تحتاج التصليح، فيما علقت على الحائط أغراض وحقائب وبنادق صيد ومعدات بدائية للحدادة، لم تعد الحاجة ماسة للاستعانة بها في أشغال الصناعة التقليدية اليوم..بابتسامة عفوية، وحركة متناسقة يعمل على شحذ إحدى السكاكين بتمرير مبرد على حدّها القاطع مرات عدة، عمل لا يصرفه عن متابعة الحديث مع زوراه، ولا يأخذ منه الكثير من الجهد والوقت على ما يبدو.
وعلى خلاف أصحاب محلات مجاورة لا يبدي ولد أكفيف أي تحفظ في الحديث إلى الإعلام، فالحال يكفي عن السؤال كما يقول، وحالة الركود التي تضرب محلات السوق خير شاهد على الواقع المزري الذي باتت تعاني منه الصناعة التقليدية بنواذيبو.
واقع فاقمت منه ظروف الجائحة، وحالة الانقسام في النقابات المعنية بالقطاع إضافة إلى غياب الدعم الحكومي، وتخلف الوسائل، وتعدد جهات الوصاية.
ركود وكساد
في المحلات القريبة داخل أكبر تجمع لمحلات الصناعة التقليدية بنواذيبو لا تبدو الصورة أفضل في أحد أيام نهاية الأسبوع.
الأبواب المفتوحة للمحلات لا تعني وجود عمال داخلها بل هي لمجرد العرض فحسب، حيث تطل من واجهاتها لوحات ومشغولات خشبية وبعض المقتنيات المنزلية التي يراها الباعة أكثر جذبا لرواد السوق والذين هم في الغالب من السياح الأجانب، وفي أوج الأزمة التي تضرب القطاع أصبحت دار الصناعة التقليدية بنواذيبو خاوية على عروشها...
تحولات كبيرة في معروضات الصناعة التقليدية على مستوى المنتوجات وحتى الجمهور المستهدف، وباحات العرض كما يشرح أحد الشباب لموقع الفكر فضل الاحتفاظ بهويته، فالمحلات هي لمجرد العرض ولم تعد ورشا للإنتاح والعمل، فيما تتجه معروضات السوق لتكون أصغر حجما، وأكثر تكييفا مع الطلب المتزايد على الهدايا والتحف المصنوعة من الخشب المطعم بالفضة والنحاس.
تحولات جذرية
وحده محمد ولد أكفيف لا زال متمسكا بحرفته القديمة في هذه السوق، ولا يزال يستقبل زبناءه من الباحثين عن تسنين سكين أو لحامة إناء معدني، أو تصليح موازين قديمة.
يعود محمد بذاكرته إلى الماضي فيقول: "مهارتي أصبحت بلا جدوى.. كنت أصنع بهاتين اليدين كل شيء تقريبا. الفؤوس والسكاكين وآلات الزراعة و’’آبراريد’’(جمع براد وهو إبريق الشاي التقليدي) والتيداتن (التاديت وعاء من خشب خفيف تحلب فيه الغنم والبقر) وكل شيء.. لكن ’’المشاغيل’’ لم يعد يكترث بها أحد".
كان وحيدا في الدار التي أنشئت خصيصا لترقية الصناعة التقليدية بنواذيبو، مكبا على عمله الذي أصبح المورد الوحيد الذي يصرف منه على أسرته.
المحلات المحاذية في أغلبها موصدة لا تكشف عن أي نشاط ولا حراك، في السوق التي زينت جدرانها الخارجية رسومات لأنماط العيش التي كانت تعتمدها الأسرة الموريتانية من مختلف المكونات.
فيما تبدو أسعار المعروضات في مجملها غالية لأسباب تتعلق بحالة الركود التي تعيشها السوق، ولغلاء الخامات والإيجار والتي فاقمت منها ظروف الجائحة كما يشرح أحد الشباب، مؤكدا أن القطاع تأثر كثيرا بهذه الجائحة، موضحا أن غالبية زبناء أسواق الصناعة التقليدية كانوا من الأجانب، وتحديدا السياح، والسياحة لم تعد موجودة منذ عدة أشهر بسبب الإغلاق بين الدول.
مؤشرات الطلب
وفيما كان تركيز الصناعة التقليدية في الماضي على الحدادة وأعمال العود (الخشب المقتطع من الأشجار) وصياغة الذهب والفضة، وكان النساء يمارسن أعمال الجلود والنسيج والزينه"،
لكن الواقع تغير منذ نهاية السبعينيات كما يقول محمد ولد أكفيف -تغيرت الحال ونزح الناس بفعل الجفاف إلى المدن فتغيرت تبعا لذلك حاجتهم للمنتج التقليدي".
و مع التحول الهائل من نمط حياة البادية والترحال، إلى أنماط القرية والمدينة، اختفت الحاجة إلى كثير من منتجات الصناعة التقليدية، وبفعل العولمة واتفاقيات التجارة أصبحت الأسواق تعج بالأدوات والآلات والأواني المستوردة، فلم يعد أحد يفكر في الصناعة التقليدية.
ودفعت هذه الوضعية بكثيرين من ممارسي هذه الصناعة إلى التركيز على صناعة الحلي وأدوات الزينة، وخاصة الأساور والخلاخل الفضية التي برع الصناع التقليديون منذ القدم في صياغتها وزخرفتها بخشب الأبنوس.
في غضون ذلك، انهمك آخرون في الزخرفة والتحف اليدوية التي تجد إقبالا من طرف الأجانب. في حين هاجر كثير من هؤلاء حيث السوق أفضل للمنتجات التقليدية "إنه مجال رحب. الناس هنا مقتنعون به ويعتاشون منه.
تركنا دار الصناعة التقليدية بنواذيبو كما دخلناها، هدوء وركود مطبق لا يشوس عليه سوى ضجيج الشارع المجاور، وتركنا المسن ولد أكفيف وهو يحاول تعداد المعوقات التي تعترض النهوض بالصناعة التقليدية في موريتانيا، والتي يؤكد أن من أبرزها:الانقسام النقابي وتدني الدعم الحكومي، وتخلف الوسائل، وتعدد جهات الوصاية..وإذا عرف السبب بطل العجب كما يقال.