والدارس المتعمق: يلاحظ أن فقه الصحابة والسلف كان يتّجه غالباً إلى الأيسر؛ وفقه من بعدهم كان يتّجه غالباً إلى الأحوط.
وللبخاري عن جابر: أنه صلى في إزار وثيابه عنده، فقال له قائل: تصلي في إزار واحد؟ فقال: إنما صنعت ذلك ليراني أحمق مثلك! وأيّنا كان له ثوبان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ يعني: أنه أراد أن يعلمه الرخصة في الصلاة في هذه الصورة التي يرفضها المشدّدون.
فالصحابة – فيما أثر عنهم من فقه – نجدهم أكثر تيسيراً على الخلق، والتابعون على نهجهم وإن لم يبلغوا درجتهم، والأتباع على نهج التابعين، وإن لم يكونوا مثلهم؛ لأنهم بدأوا يتجهون إلى التحوط، وكل جيل أخذ يضيف بعض "الأحوطيات" إلى ما قبله.
وإذا كثرت "الأحوطيات" في الفقه المتصل بحياة الناس، فإن "مجموعها التراكمي": سينتهي إلى شيء من الآصار والأغلال التي جاء النبي صلى الله عليه وسلم بوضعها عن الأمة، فقد جاء في وصفه في كتب أهل الكتاب: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأغَلالَ التِّي كَانتْ عَليْهِمْ} [الأعراف:157]، ومن الأدعية التي علمها الله للمسلمين وخُتمت بها سورة البقرة: {رَبنَّا وَلا تحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرا كَمَا حَمَلْتهَ عَلَى الذِّينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286].
3 - التضييق في الإيجاب والتحريم:
ومن التيسير المطلوب: التضييق والتحرّي البالغ في تكليف الناس بالأحكام، وخصوصاً في مجال الفرض والتحريم، فلا يجوز: التوسع في ذلك بأدنى دليل، بل لابد من نص صحيح الثبوت، صريح الدلالة: على فرضية الفرض، وحرمة الحرام، أو قياس واضح العلة على نص، فإنا نقطع: أن الشريعة العادلة لا تفرق بين متماثلين، كما لا تسوي بين مختلفين.