وقد كان السلف يتحرجون من التحريم – ومثله الفرضية – إلا أن يكون معهم دليل لا شبهة فيه، وإلا نزلوا من الفرض إلى الواجب، ومن الحرام إلى المكروه، وهذا هو مذهب الحنفية الصريح، ويقرب منهم المالكية، وهو المفهوم من عبارات الأئمة بصفة عامة.
ولهذا كثر في كلامهم مثل قول: يعجبني كذا وكذا، أو أستحب كذا وكذا، ولا يصرح بالوجوب إلا ما عُلم جزماً بوجوبه.
وقولهم في جانب المنهيات: أكره كذا، ولا أحب كذا، ولا يعجبني كذا، ولا يصرحون بالتحريم، إلا ما عُلم جزماً بتحريمه .
ويدلّ لهذا الاتجاه موقف الصحابة – رضوان الله تعالى عليهم – من شرب الخمر، فقد ظل بعضهم يشربها ويقول: اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً، برغم نزول آية: {قلْ فيِهِمَا إثِمٌ كَبيِرٌ وَمَنَافعِ لِلناسِ} [البقرة:219] وآية: {لا تقَرَبوُا الصَّلاةَ وَأنْتمْ سُكَارَى حَتىَّ تعْلَمُوا مَا تقَوُلوُنَ} [النساء:43] حتى نزلت الآية الثالثة وفيها البيان الشافي، الذي ارتقبوه: [إِنمَّا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأنْصَابُ وَالْأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فاَجْتنَبِوُهُ لَعلَكُّمْ تفُلِحُونَ} [المائدة:90].
ويبدو من التأمل في القرآن والسنة: أن الإسلام كان حريصاً على تقليل التكاليف، وتوسيع "منطقة العفو" رحمة بالمكلفين غير نسيان.
ففي القرآن الكريم جاء قوله تعالى: {يَا أيَهَّا الذِّينَ آمَنوُا لا تسْألَوا عَنْ أشْياَءَ
إِنْ تبْدَ لَكُمْ تسُؤْكُمْ وَإِنْ تسْألَوا عَنْهَا حِينَ ينُزَّلُ الْقرْآنُ تبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّه عَنْهَا وَاللَّه ُغَفوُرٌ حَلِيمٌ} [المائدة:101] وقد توسّع في شرحها والتعليق عليها العلامة رشيد رضا – رحمه الله – وجعلها أساس كتابه "يسر الإسلام".