كان العام 2021م من الأعوام شديدة الوطأة على الحركة الإسلامية، خاصة في الشمال الأفريقي، إذ خرجت الحركة من السلطة عبر خسارة انتخابية كبيرة في المغرب، وعبر انقلاب في تونس، يحاول من خلاله الرئيس قيس سعيد وضع نهاية لحضور الإسلاميين في بنية السلطة، وبإرادة الحركة كما في الجزائر، رغم التقدم النسبي لحركة مجتمع السلم (حمس) في الانتخابات التشريعية والمحلية، بعد رفضها المشاركة في الحكومة الجزائرية. الحقيقة أن استشراف المستقبل للعام الجديد سيكون صعباً في ظل المأزق الذي تعيشه الحركة الإسلامية في غالبية دول العالم، وتراجع الكثير من مكاسبها لأسباب دولية ومحلية، وأخرى داخل الحركة نفسها، بعدما باتت تقدم طرحاً سياسياً ودعوياً في حاجة إلى مراجعة ليواكب التغيرات العالمية، من أهم معالمها هو ضرورة أن تجري الحركة تعديلات عميقة في مشروعها، وأن تدرك أنها إذا لم تنجح في قراءة عوامل الإخفاق منذ "الربيع العربي"، فلن تستطيع أن تضع أقدامها في المستقبل، فلا بد من القراءة النقدية للأزمة التي تعيشها الحركة حالياً، وأخذ الدرس؛ حتى لا تمضي بنفس الخطى، وفي نفس الدروب المخيفة.
وقد حظي خروج الحركة الإسلامية من السلطة باهتمام في الصحافة العالمية، وامتزجت الكثير من التحليلات بالتمنيات، في أن يكون هذا هو الخروج النهائي للإسلاميين من السلطة، بعد أعوام من الصعود؛ ففي عدد صحيفة "The New York Times"، الصادر في 8 سبتمبر 2021م، وصفت هزيمة حزب العدالة والتنمية المغربي في الانتخابات التشريعية بالقول: إن "النتيجة أظهرت شيئاً واحداً؛ المساحة المتضائلة التي يجدها الإسلاميون الآن لأنفسهم في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا".
وكان حزب العدالة والتنمية قد حصل على 13 مقعداً في تلك الانتخابات مقارنة بـ125 مقعداً في الانتخابات السابقة؛ أي أنه فقد أكثر من 112 مقعداً، وهي خسارة كبيرة بكل المقاييس، لكن يهمنا تعليل الصحافة العالمية لأسباب ذلك الفشل، وهي مسببات قد تجد حضورها بالفعل داخل الحركة في كثير من البلدان، وداخل مشروع الحركة السياسي والمجتمعي.
حيث تشير الصحافة إلى أن الإسلاميين المغاربة ربما أمسكوا بمنصب رئيس الحكومة، لكن الوزارات السيادية والقوية مثل الخارجية والصناعة لم تكن بأيديهم، وهو ما جعل قدرة رئيس الوزراء على ضبط الحكومة، وفقاً لأهداف الحزب ومشروعه الانتخابي أمراً صعباً للغاية، وفي الحالة المغربية فالملك متدخل في الشؤون الحكومية بشكل كبير، ولعل وصف عبدالإله بنكيران، رئيس الوزراء الأسبق، بأن "جلالة الملك يحكم المغرب، أما رئيس الوزراء فيساعد الملك" دليل على الهامش الضيق من الحرية الذي يسير فيه رئيس الحكومة، وهو أمر لم يتنبه إليه د. سعد الدين العثماني؛ فرغم جهود الرجل الفكرية قبل توليه السلطة، فإن أداءه الحكومي كان سيئاً وجالباً للخسائر الانتخابية، ولعل هذا ما دفع بنكيران إلى إعلان مقاطعته للعثماني، لولا تدخلات من القيادات الإسلامية، التي انتهت بتجميد عضوية بنكيران في الحزب.
وكذلك خصم أداء العثماني من رصيد الحركة الإسلامية الرمزي بعد إقرار الحكومة المغربية –التي يرأسها العثماني- التطبيع مع "إسرائيل"، وكان الأغرب هو دفاع العثماني عن اتفاق التطبيع، إذ جاء مجافياً للرؤية الإسلامية، فقال في 22/12/2020م: إن حزبه "لا يمكنه أن يقع في تناقض واصطدام مع اختيارات الدولة، ومع توجهات جلالة الملك، الذي يؤول إليه دستورياً أمر تدبير العلاقات الخارجية"، كذلك إقرار الحكومة لقانون لزراعة القنب الهندي أو "الحشيش"، وهو ما شكل صدمة داخل الحزب، وعموم المجتمع المغربي؛ فجزء من رصيد الحركة اجتماعياً يعتمد على رأسمالها الرمزي، الذي كان يشكل حاضنة قبول وحماية في المجتمع المغربي.
وربما هذا ما دفع "BBC" أن تكتب تقريراً بعنوان "كيف وجّه محمد السادس ضربة للإسلام السياسي؟"، فالملكية المغربية أو ما يعرف بـ"المخزن" ذات تاريخ عريق في القدرة على ترويض المعارضة، ونجحت المؤسسة الملكية في إبعاد حزب "العدالة والتنمية" أثناء توليه السلطة عن قواعده والتزاماته، ومن بينها الالتزامات الاجتماعية، ومحاربة الفقر الذي زاد في عهد الحزب وسياساته، وتجلى ذلك في تعامل الحزب مع أزمة المعلمين الذين تصاعدت احتجاجاتهم بعد منحهم عقوداً لمدة عامين وحرمانهم من الأمان الوظيفي، وكانت "لغة العصى والركل" هي لغة الحكومة في مواجهة تلك الاحتجاجات في مارس 2021م، تلك الأزمة القائمة منذ العام 2016م، لنحو مائة ألف معلم، هذا الفشل في التعامل مع هذه القضية على مدار خمس سنوات أفقد الحزب جزءاً من قاعدة تأييده في الطبقة المتوسطة، التي تقبع الحركة الإسلامية داخل الكثير من تكويناتها.
انقلاب سعيّد
وفي تونس، كان انقلاب الرئيس قيس سعيد، في يوليو 2021م، وتجميده للبرلمان ورفع الحصانة عن أعضائه، وسيطرته على مقاليد الأمور، وإخراج الإسلاميين من السلطة، بل ومن المشهد السياسي بشكل عام، ورغم محاولات حركة "النهضة" فتح قناة للحوار السياسي مع سعيّد، فإن الرجل أراد أن يمضي بانقلابه إلى نهاية الطريق، بتجميع السلطة في يديه منفرداً مستعيداً إنتاج الدولة الاستبدادية والحكم الفردي، وقبل أن ينتهي العام 2021م بدأت قوى سياسية تونسية تعارض ذلك الانقلاب، وتراه خطراً على الحريات والديمقراطية، لذلك أطلقت مجلة "الإيكونوميست"، في عددها الصادر 18/9/2021م، على ذلك العام بأنه عام "الإسلاميون خارج السلطة"، في حين أشار موقع "دوتشي فيله" الألماني في تقرير إلى حالة "أفول الإسلام السياسي في المغرب وتونس"، مستنداً إلى ما ذكرته إحدى الصحف الألمانية عن "التآكل" المتسارع لرصيد الإسلاميين.
وشهد العام 2021م انتخابات تشريعية ومحلية في الجزائر، كانت الأولى في يونيو، والثانية في نوفمبر، واستطاعت حركة مجتمع السلم (حمس) الحصول على المركز الثالث في التشريعية، وعلى السادس في المحلية، ورغم ذلك رفضت الحركة المشاركة في الحكومة بأي وزراء، رغم محالات الرئاسة الجزائرية منحهم عدة حقائب وزارية، وكان تبرير الحركة على لسان رئيسها عبدالرزاق مقري أن "الحركة تريد الحكم وليس الحكومة، وبتفصيل أدق لا تريد أن تكون مجرد واجهة للحكم"؛ أي أن دخولها الحكومة دون قدرتها على تنفيذ وعودها، أو تحميلها نتائج الإخفاقات الحكومية ليس في صالح الحركة الإسلامية نفسها.
نظرة للمستقبل
جاء دخول الحركة الإسلامية إلى بنية السلطة عبر نضال استمر سنوات طويلة، ولكن تبقى مشكلة السياسة أن إخفاقها ينعكس سلباً على مجمل المشروع الإصلاحي للحركة الإسلامية، بعدما ربطت الحركة مصيرها بالسياسة في كثير من البلدان، ويبدو أن هذا من القضايا التي تحتاج إلى معالجة، إذ تبقى هناك ضرورة لإعادة صياغة رؤية جديدة لتعامل الحركة مع السياسة والمشاركة في السلطة؛ فغالبية النتائج المتحصلة من المشاركة في السلطة كانت مؤلمةعلى مسار الحركة، ومهدداً لمشروعها الإصلاحي؛ فقد يكون من الأفضل للحركة أن تكتفي في السياسة بممارسة دور "الضمير"؛ أي البقاء في البرلمانات، وممارسة الرقابة على السلطة التنفيذية، ومقاومة الفساد الحكومي، دون أن تتولى المسؤولية بمفردها أو مشاركة مع الآخرين، إذ إن التجارب تثبت أنه لم يتم تمكين الإسلاميين من تنفيذ أي من رؤاهم الإصلاحية، وأن وجودهم كان تغطية على صدور بعض القوانين سيئة السمعة، مثل "قانون القنب الهندي" أو إبرام التطبيع، فقد صُبت اللعنات على الحركة، وحملت أوزار تلك الخطوات البائسة، طمعاً في البقاء فترة أخرى في السلطة، دون تقديم أي إفادة حقيقية لمشروعها الإصلاحي والتغييري.
ويلاحظ أن خطاب الحركة الإسلامية في القضايا الاجتماعية ما يزال ضعيفاً غير قادر على الاستقطاب؛ فخطابها -في الغالب- حصر نفسه في قضية "الهوية" دون أن يعطي المسألة الاجتماعية اهتماماً كبيراً، فظل الحديث عن المسألة الاجتماعية عامّاً، تغيب عنه فكرة المشروع المتكامل، أو حتى الدفاع عن قضايا محددة أو طبقات بعينها، خطاب مغلف برؤية أخلاقية؛ لذا ظلت الطبقات التي ساندت الحركة الإسلامية للوصول إلى السلطة تعاني، ولم يحدث تغير في معاشها، بل ربما زادت معاناة مع إمساك الحركة "الشكلي" بالسلطة، وهو ما ظهر في أزمة المعلمين المغاربة التي أشرنا إليها منذ قليل.
عن: مجلة المجتمع الكويتية