وهو ما يعني لزوم اطراد الحكم وثبوته لعدم وجود عّلة توجب تغييره.
وأما كون الحكم بالتوسط جاريا على الغالب بأن يتخلف عنصر الاطراد فيه منطبقا على أغلب أفراده لا على كلها، فهو راجع إلى طبيعة التشريع ذاته وطبيعة الفقه الذي بني عليه، كما هو مقرّر عند عامّة فقهاء الإسلام، فقد حصل الإجماع منهم مثلا على "العمل بخبر الواحد وهو في بعض الحالات على الأقل، إنّما يفيد الصّحة والصّدق على الغالب، وأجمعوا على العمل بالترجيح، والترجيح إنّما هو الأخذ بالغالب من المتعارضين، وأجمعوا على صحّة الاجتهاد الظّني، وهو قائم على أن المجتهد يقول بما غلب عليه ظنّه، بل إنّ الاجتهاد لا يكون إلاّ في مجال الظّنون، قصد اختيار أغلبها" [أحمد الريسوني "نظرية التقريب والتغليب وتطبيقاتها في العلوم الإسلامية" صد 171، ط الأولى، مطبعة مصعب 1994م].
وقد صاغ الفقهاء هذا المعنى بما يعني أنّه من المسلمات والبدهيات عندهم فقالوا: "الغالب كالمحقّق"، كما قالوا: "العبرة للغالب الشّائع لا للنّادر". فإذا كان الحكم مطّردا أو غالبا فالذي يليق حينئذ، بل يتعيّن الأخذ به – لما تقدّم من الشواهد والأدلة – إنما هو الوسيط بين طرفي الإفراط والتفريط. وهذا هو المعنى الذي يتبادر إلى الذّهن حين يوصف الإسلام بأنّه دين الوسطية والاعتدال. إذ قد تقرّر عند العقلاء قاطبة تخلف القاعدة في بعض جزئياتها، وأنّ ذلك لا يسلب عنها صفة القاعدة، وكان الاستثناء من الحكم العام واردا في كل الشّرائع، حتى قيل: من القواعد عدم اطراد القواعد، والشاذ يحفظ ولا يقاس عليه...
على أني أود أن أقرر هنا أمرا مهما، وهو أن الداعية الوسطي أو المفكر الوسطي لا يضرّه أن يخرج عن الوسطية في بعض الأحيان إلى اليمين أو إلى اليسار، على معنى أن يغلو حينا أو يقترب من الغلاة، أو يفرّط حينا أو يقترب من المفرطين، فما هو إلا بشر غير معصوم، تؤثر عليه المؤثرات المختلفة، عن يمينه وعن شماله، ومن بين يديه ومن خلفه. المهم هو الاتجاه العام، والأغلب على علمه وفكره، وللأكثر حكم الكل، والنادر لا حكم له.