نسائم الإشراق، الحلقة رقم (1804) 27 يناير2022م، 23جمادى الآخر 1443هـ، فقه الوسطية الإسلامية والتجديد، معالم ومنارات، الشيخ يوسف القرضاوي، الحلقة رقم (78).

"الدعوة والتربية والإفتاء"

 ومن المهم بل من الضروري: أن توجّه الأمة إلى منهج الوسطية – بعيداً عن الغلوّ والتقصير أو الإفراط والتفريط، أو الطغيان والإخسار – في كلّ مجالات التوجيه والإرشاد والتبصير والبيان. وهي مجالات أو ميادين أساسية ثلاثة. هي: 
ميدان الدعوة والإرشاد، وميدان التربية والتعليم، وميدان الإفتاء والأحكام. 
أولا  - الوسطية في ميدان الدعوة والإرشاد:
ففي ميدان الدعوة والإرشاد – ومنه الإعلام والتثقيف – يجب على الداعية المسلم البصير: أن يأخذ الناس بالمنهج الوسط دائما في كل شيء. 
بين العقل والنقل: 
ومن ذلك: المنهج الوسط بين النقل والعقل، فلا يصادم أحدهما بالآخر، فإن النقل "أي الوحي" لم يثبت لدينا إلا بالعقل، ولولا العقل ما ثبت الوحي. فإن دلالة المعجزة على صدق الرسول دلالة عقلية. على أن ثبوت الرسالة فرع عن ثبوت المرسل، وهو الله تعالى. فالعقل أثبت لنا الحقيقتين الكبيرتين، أي وجود الله وثبوت النبوة، أي أثبتهما أمام من ينكرهما، فلا تستطيع أن تقنعه بقولك: قال الله، وقال الرسول؛ إذ هو لا يؤمن بهما. 
والإسلام يغالي بقيمة العقل والفكر، ويعتبر التفكّر والنظر عبادة وفريضة. وتعطيلهما خطيئة وجريمة، وينادي المخالفين {قلْ هَاتوُا برْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111] [النمل:64]. ويرفض بشدة التقليد الأعمى للآباء والأجداد، وللسادة 
والكبراء، ويقول في ذلك: {وَإِذاَ قيِلَ لَهُمُ اتبِّعوُا مَا أنْزَلَ اللَّه قاَلوُا بَلْ نتَبِّعُ مَا ألَفيْنَا عَليْهِ آبَاءَنَا أوَلَوْ كَانَ آبَاؤهُمْ لا يَعْقِلوُنَ شَيْئا  وَلا يَهْتدَوُنَ}[البقرة:170]. 
والعقل هو أداة فهم ما أوحى الله به من القرآن ومن السنة، وهو أداة تحصيل العلم النافع من الفقه في الدين، والعلم بالدنيا . وبذلك يكون من "أولي الألباب" الذين يفهمون آيات الله في كونه وفي كتابه. 
والعقل هو وسيلتنا في فهم قوانين الكون واكتشاف ظواهره، وتسخيرها في خدمة الإنسان، على أن العقل الذي أثبت الوحي يجب أن يعترف بأن عليه بعد إثباته أن يخضع لمنطقه، ويصدّق بأخباره، ويذعن لأوامره ونواهيه، فهنا يعزل العقل نفسه مختارا ليتلقى من الوحي الذي ثبتت حقيّته بطريقة عقلية قطعية لا مجال فيها لريب أو التباس. 
وبهذا يتوافق العقل الصريح مع النقل الصحيح، ويتعاون وحي الرحمن، وعقل الإنسان – وكلاهما من فضل الله تعالى ونعمه – على الرقي بالإنسان، والعمل على صلاح أمره، أفرادا وجماعات، روحا ومادة، دنيا وآخرة، فكل منهما للآخر {نوُرٌ عَلَى نوُر} [النور:35].