وأمر رسوله أن ينادي عباده العاصين له، المسرفين على أنفسهم بالذنوب
والخطايا، فقال لرسوله: {قلْ يَا عِبَادِيَ الذِّينَ أسْرَفوُا عَلَى أنْفسِهِمْ لا تقَنَطُوا مِنْ
رَحْمَةِ اللَّه ِ إِنَّ اللَّه يَغْفِرُ الذنُّوُبَ جَمِيعا إنِهَّ ُ هُوَ الْغفَوُرُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]. فلم يحرمهم من شرف عبوديته والانتساب إليه رغم إسرافهم على أنفسهم بذنوبهم.
وهذا ما يجب أن يتيقّظ له الداعية، ويعطي كل قوم ما يحتاجون إليه من الترجية والتخويف، بالقدر الذي يصلحهم، ولا يسرف فيه، فتضيع النتيجة.
وهذا ما نبّه إليه الإمام الداعية الوسطي المصلح أبو الفرج بن الجوزي (ت 597 ه.) رحمه الله، فقال في أحد خواطره في بحث عنوانه: "أصلح الأمور الاعتدال [العنوان من وضع شيخنا الشيخ محمد الغزالي رحمه الله الذي أشرف على إخراج الكتاب وتصحيحه.]:
"أعلم أن أصلح الأمور الاعتدال في كل شيء، وإذا رأينا أرباب الدنيا قد غلبت آمالهم و فسدت في الخير أعمالهم، أمرناهم بذكر الموت والقبور والآخرة، فأما إذا كان العالم لا يغيب عن ذكره الموت، وأحاديث الآخرة تقرأ عليه وتجري على لسانه، فتذكره الموت زيادة على ذلك لا يفيد إلا انقطاعه بالمرة. بل ينبغي لهذا العالم الشديد الخوف من الله تعالى الكثير الذكر للآخرة: أن يشاغل نفسه عن ذكر الموت ليمتد نفس أمله قليلا، فيصنّف ويعمل أعمال خير و يقدر على طلب ولد، فأما إذا لهج بذكر الموت كانت مفسدته عليه أكثر من مصلحته، ألم تسمع أن النبي صلى الله عليه و سلم سابق عائشة رضي الله عنها فسبقته، و سابقها فسبقها، وكان يمزح ويشاغل نفسه؟ فإن مطالعة الحقائق على التحقيق تفسد البدن و تزعج النفس.
و قد روي عن أحمد بن حنبل: "أنه سأل الله تعالى أن يفتح عليه باب الخوف، ففتح عليه، فخاف على عقله! فسأل الله أن يرد ذلك عنه". فتأمل هذا الأصل فإنه لا بد من مغالطة النفس وفي ذلك صلاحها.