أوراسيا وأمريكا.. سباق لكسب النفوذ/ محمدسالم جدو

بعد سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1991م، عرف العالم ما يسمى بالأحادية القطبية، وذلك بزوال المعسكر الشرقي ممثلا في الاتحاد سالف الذكر، ويرى منظرو العلاقات الدولية أن الولايات المتحدة الأمريكية هي قطب العالم منذ وضعت الحرب الباردة أوزارها، لكن ما يثير الشكوك حول ظهور عالم متعدد الأقطاب هو بروز دول متمردة ومستقلة بشكل تام عن قطب العالم، هي روسيا والصين. 

في الأيام الأخيرة لاحظ المتابعون للشأن الدولي أزمة أوروبية هي الأكبر منذ الحرب الباردة التي قسمت فيها ألمانيا، وهو نفسه ما يقع الآن مع أوكرانيا بتصرف، فروسيا القائمة على أنقاض السوفيات تستعد لاجتياح منطقة مهمة جيوسياسيا، وإذا تم ذلك ستكون قد قطعت شوطا كبيرا في زوال القطبية الأحادية.

 وتعتمد موسكو في عملية "الغزو" على سياسة الهجوم بالجيش والدفاع بالاقتصاد، بمعنى أن روسيا تستخدم وارداتها من الغاز عبر خط "نورد ستريم 2" وسيلة ضغط على أوروبا التي يعتمد نصفها على الغاز الروسي، وهي وسيلة فعالة لتطويع الاقتصاد لخدمة الأجندة، وصد أي ضرر قد يلحق بها، وفي المقابل يمكن الأمريكا التحرك ضد هذه العملية إما بفرض عقوبات على الشركات التي تعمل على الخط الممتد عبر البلطيق غربا إلى شمال شرق ألمانيا، أو إيجاد مورد بديل لروسيا، وذلك التفسير الوحيد لقمة بايدن وتميم بن حمد آل ثاني، فأمريكا تسعى إلى جعل قطر المورِّد الرئيسي للغاز الطبيعي وتوفير نصف واردات أوروبا، وهو ما يترجم تلويح ألمانيا بإيقاف خط أنابيب البلطيق حال غزو أوكرانيا، وبإمكان قطر توفير حوالي 140 مليار متر مكعب من الغاز فقط، أي أن كل غاز قطر أقل من كمية الغاز الذي تضخه موسكو لأوروبا، لكن تأكيد قطر لعدم جاهزيتها، بعثر أوراق الإدارة الأمريكية، وهي خطوة متوقَّعة من قطر، لأن إمداد أوروبا بالغاز يعني دخول الحرب ضد تنين بيكين الذي يعتمد على صادرات قطر من الغاز، وفي هذه الحالة ستكون قطر محاصرة بين نيران التنين الصيني وأظافر الدب الروسي، إذن فقطر تمنعها عوامل عدة من تصدير كمية كبيرة من الغاز، مما يعني فشل خطة أمريكا في جعل غاز قطر سلاحا ضد الصين بإمساكه عنها، وضد الروس في تعويضه غازَهم، وهكذا ضاع الحجر الواحد الذي يضرب عصورين.

وفي أوروبا يبدو أن مساعي ماكرون -رئيس الاتحاد الأوروبي- لإخراج القارة من حلف الناتو، وإنشاء نظام أمني جديد مستقل عن حلف شمال الأطلسي، هو ما يمثل صفعة لواشنطن، وسيقطع نفوذها بشكل كبير في المنطقة.

وإذا قمنا بربط الأحداث افتراضا، سنجد أن إقامة نظام أمن أوروبي مشترك، سيؤدي إما إلى انفراج الأزمة الأوكرانية عن طريق حوار أوروبي صافٍ، أو بدء التصعيد بين روسيا وحدائقها الخلفية مقابل قوات دفاع أوروبا -وهو أمر بعيد الوقوع- وفي كلتا الحالتين لن تتمكن أمريكا من حشر أنفها في الملف -على الأقل- من خلال استولتنبرغ، وبذلك تكون قد خسرت نسبيا على الصعيد الأوروبي.

أما أسيويا فيسعى شيوعيو الصين إلى ضم جزيرة تايوان، وذلك ما لا تتمناه الولايات المتحدة، ويرى بعض المحللين أن تايوان ستكون برميل بارود لو تدخلت أمريكا إلى جانب الكومنتانغ، والغريب في القصة أن أمريكا لم تعترف بعد بتايوان كدولة، وعلى أية حال فقيام حرب قطباها الصين والولايات المتحدة وحده سبب كافٍ لفناء البشرية.

ولكن مهما كان لا يمكن القول جزما بسقوط الولايات المتحدة -على الأقل- بناء على الوضعية الراهنة، فحتى انسحابها "المذل" من أفغانستان والعراق وغيرهم، ليس إلا لإعادة التموضع وتقليل الإنفاق المفرط على القواعد العسكرية، وربما للالتفات على بعض القضايا الداخلية أولها التركيز على البنية التحتية بعد أن تم تمرير مشرعها بقيمة تفوق تريليون دولار، ومواكبة تقنية الجيل الخامس.