ثانيا: - الوسطية في ميدان التربية والتعليم:
وإذا كان على الداعية أن يأخذ الناس بالمنهج الوسط، فكذلك على المعلم والمربي أن يأخذ مع المتعلمين والمتلقين عنه من الناس: المنهج الوسط، الذي لا وكس فيه ولا شطط.
فلا يدع الناس من حوله يغرقون في متاع الحياة الدنيا، وينسون الآخرة التي هي دار القرار، فهو يعيش في الدنيا كأنما هو مخلد فيها، هي أكبر همّه، ومبلغ علمه، ومحور تفكيره، ومنتهى آماله، ناسيا أنها أيام معدودة تنتهي بالموت، وأن لذاتها ممزوجة بالآلام، وسرورها مشوب بالحزن، وأنها مزرعة الآخرة وهي خير وأبقى، يزرع الإنسان هنا ليحصد هناك. ولذلك امتلأ القرآن والسنة بالتحذير من غرورها، والتخويف من فتنتها، وكان من الأدعية النبوية المأثورة: "اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا" [رواه الترمذي في الدعوات (3502) وقال: حديث حسن غريب، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي (2783) عن ابن عمر].
وقال القرآن: {فأَعْرِضْ عَنْ مَنْ توَلىَّ عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يرِدْ إِلَّا الْحَياَ ةَ الدنُّيَا ذلِكَ مَبْلَغهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [لنجم:30،29]. فالخطر هنا ينجم في أنه {لَمْ يرِدْ إِلاَّ الْحَياَة َ الدنُّياَ}. فالآخرة بعيدة عن إرادته واهتمامه.
ومثله قوله تعالى: {فأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثرَ الْحَيَاة َ الدنُّياَ فإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ
الْمَأوَى} [النازعات:37-39]. فليس المعيب أن يستمتع بما أحل الله من طيبات الدنيا، إنما المعيب أن يؤثر الدنيا على الآخرة، فالدنيا هي اختياره الأول، وعند المقارنة يفضلها على الآخرة. وهذا هو الخسران حقّا: أن يؤثر المرء الفاني على الباقي. والحقير على النفيس، والرخيص على الغالي. قال تعالى: {بَلْ تؤُثِرُونَ الْحَياَة الدنُّياَ * وَالْآخِرَة خَيْرٌ وَأبْقَى} [الأعلى:17،16]، وفي الحديث: "ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه هذه في اليم، فلينظر: بم يرجع؟" [رواه مسلم في صفة الجنة ونعيمها وأهلها (2858)، وأحمد في المسند (18008)، والترمذي (2323)، وابن ماجه (4108) كلاهما في الزهد، عن المستورد بن شداد الفهري].
كما لا ينبغي للمربي البصير أن يدع الناس يسرفون في الجانب الروحي على حساب الجانب المادي، وبعبارة أخرى يهملون أمر الدنيا من أجل أمر الآخرة، كما هو شأن الرهبانية النصرانية، والمانوية الفارسية، والبرهمية الهندية، والبوذية الصينية، والرواقية اليونانية، وغيرها من المذاهب التي تقوم فلسفتها على تعذيب الجسد من أجل الروح!