التصعيد الروسي، المهارة السياسية و دقة التوقيت/ باب ولد الشيخ سيديا

أقدمت روسيا بقيادة إفلاديمير بوتين على الإعتراف بإقليمين انفصاليين في جمهورية أوكرانيا  (دونيتسك و لوغانسك)  التي كانت تستعد لدخول التحالف الغربي (التركي) العسكري "الناتو" ثم عززت ذلك الإعتراف بالدفع بقوات برية أعتبرت الأضخم منذو نهاية الحرب الباردة و انهيار جدار برلين.

السلطات الروسية اعتبرت أن تدخلها العسكري  جاء لأسباب إنسانية بالأساس و ذلك لحماية المدنيين في الإقليمين بينما اعتبرت أوكرانيا و الإتحاد الأوروبي و الولايات المتحدة أن الأمر يعد خرقا سافرا للسيادة الأكرانية و تمهيدا للإحتلال و السيطرة على العاصمة كييف.

لا يخفى على أهل الإختصاص مدى دقة و ذكاء ما أقدم عليه زعيم الكرملين في هذا التوقيت بالذات رغم المخاطر التي ستواجهه إقليميا و دوليا.

أولا)

إستباق الولايات المتحدة و التشويش على ما يفكر فيه الرئيس جو بايدن.

في مقابلة سابقة مع قناة (أيه، بي، سي نيوز) التلفزيونية و بعد أشهر من توليه رئاسة الولايات المتحدة صرح الرئيس جو بايدن أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتن  "قاتِلْ" ليُفاجئه الصحفي: هل ستعاقبه إذن؟ فأجابه بايدن: نعم، فأردف الصحفي: كيف ذلك؟ فقال بايدن: سوف ترون سريعا.

تساءل كثيرون، و أنا من بينهم، هل سيتمكن الرئيس الأمريكي جو بايدن من معاقبة الرئيس الروسي كما وعد و كيف يمكنه ذلك؟

حسب قراءتي للأحداث قبيل و بعد تلك التصريحات التلفزيونية فإن الرئيس الأمريكي جو بايدن كان يخطط بإحكام لضرب النفوذ الروسي عن طريق تضييق الخناق على اقتصاده الذي بدأ يعاني وقتها من تداعيات أزمة الإنخفاض التاريخي لأسعار النفط و تأثيرات جائحة كورونا التي أدت إلى انخفاض كبير في نسبة النمو العالمي مما أدى إلى انخفاض الطلب على الطاقة عموما الشيء الذي أدى إلى زيادة إنخفاض متسارع في أسعار النفط و الغاز اللذين يشكلان االعمود الفقري للإقتصاد الروسي.

استبشر البيت الأبيض بكل هذه العوامل القاتلة للإقتصاد الروسي و خطط على تعميقها و ديمومتها على المدى القصير و المتوسط ، فضغطت إدارة بايدن على حلفائها من أجل إغراق الأسواق العالمية بالنفط و الغاز كما أعلن البيت الأبيض عن ارتفاع تاريخي في مخزون الإحتياطي الإستراتيجي الأمريكي من النفط! الشيء الذي أدى إلى تدهور حقيقي لأسعار الطاقة العالمية أصبح بموجبه الإقتصاد الروسي في خطر حقيقي. أضف إلى ذلك التحمس الغربي المفاجئ  لإبرام اتفاق نووي! مع إيران حتى يتدفق النفط الإيراني مغرقا الأسواق العالمية المغرقة أصلا .

لم يكتف البيت الأبيض بهذه الإجراءات فقط بل أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن في خطاب وصف بأنه تاريخي، و تحدث عن استثمار ضخم بما يناهز ألفي مليار دولار لإعادة بناء البنى التحتية الأمريكية كي تتماشى مع برنامجه العالمي الجديد بالإعتماد وبصفة كلية على الطاقة النظيفة و التخلي نهائيا عن النفط و جزئيا عن الغاز أي بعبارة أخرى قتل الإقتصاد الروسي و تحويل إفلاديمير بوتن إلى رئيس لدويلة بائسة من دويلات القرون الوسطى قد لا تجد من المال ما تؤمن به مساحتها الشاسعة لتتحول إلى دويلات صغيرة متقاتلة في ما بينها غير قادرة على التعايش السلمي المشترك.

لم يكن الرئيس الروسي إفلاديمير بوتن، و هو السياسي المخضرم، القادم من المخابرات الروسية ك،ج،ب، ليقف متفرجا على خطط بايدن القاتلة للإقتصاد الروسي فقام بتفعيل منظمة أوبيك بلس للتأثير على أسعار النفط العالمية عن طريق تخفيض الإنتاج، الشيئ الذي أزعج الولايات المتحدة و أوروبا و كان سببا مباشرا في إنطلاق المفاوضات مع إيران.

قبل أشهر، و على طريقة بايدن، استدعى الرئيس الروسي وسائل الإعلام العالمية ليعلن أن سعر النفط في الأسواق العالمية سيتعدى المائة دولار للبرميل في سنة 2022 و بعدها بأيام فاجأ العالم بأكبر تحرك للقوات الروسية في أوروبا بعد الحرب الباردة ليقفز سعر برميل النفط بأكبرنسبة زيادة يومية منذو سنوات 4% ليصل اليوم إلى 97 دولارا للبرميل.

  ثانيا)

دقة التوقيت:

إن التوقيت الذي اختاره الرئيس الروسي فلاديمير بوتن لتحرك قواته كان دقيقا بكل المقاييس. فقد كان التحرك في ذروة فصل الشتاء لتكبيل ردة الفعل الأوروبية التي تعتمد لتدفئة شعوبها من الغاز على روسيا بنسبة 40%!.

يعلم فلاديمير بوتن جيدا أن ردة الفعل الغربية ستبدأ بعقوبات اقتصادية للتضييق عليه، لذلك انتظر حتى تنفق الدول الغربية أموالا طائلة و تخسر أخرى بسبب جائحة كورونا و لم يترك لها الوقت لتعافي اقتصاداتها حتى تكون ردة فعلها محدودة و غير فعالة لافتقارها إلى المال و حاجتها إلى النمو الإقتصادي الذي يتأثر سلبا بالمواجهة السياسية.

و أخيرا،

لقد نجح فلاديمير بوتن حتى الآن في المواجهة مع جو بايدن و استطاع التحرك إلى موقع هجومي بعد أن ظن الجميع أنه سيبقى في موقع دفاعي حتى آخر لحظة إلا أن هذا النجاح يظل مؤقتا في انتظار مدى فاعلية العقوبات الغربية عليه أو تطويرها إلى ردة فعل عسكرية تبدو لي مستبعدة بسبب الأوراق التي قد تلعبها موسكو مع الصين و كوريا الشمالية لاجتياح هونك كونك و كوريا الجنوبية، كما أن إنقسام الجبهة الداخلية الأمريكية و تأثيرات ترامب و مناصريه من أقصى اليمين الذين تناغموا مع بوتن و تناغم  معهم قد تضعف أوراق بايدن و تحول دون دعم الكونكريس الأمريكي من أجل اتخاذ قرارات حاسمة.

...طابت أوقاتكم...