احتل الحديث عن الشيعة والتشيع مساحة واسعة في الأحاديث السياسية والفكرية والدعوية خلال السنوات الأخيرة وزاد من حدته الأدوار التي ترغب دولة إيران في لعبها بالمنطقة مستغلة حالة الفلتان التي أعقبت الموجة الأولى من الربيع العربي وانشغال أغلب الدول العربية بمشاكل داخلية لم تكن إيران بالضرورة هي من افتعلها لكنها ساهمت في إذكاء بعضها مستغلة الدعاية الشيعية وحب آل البيت في نفوس المسلمين عموما ومستفيدة من إرث الإمبراطوري للدولة الفارسية التي تعد من اقوي الإمبراطوريات في التاريخ، لقد تداخل في ظاهرة التشيع العابر للحدود والثقافات الكثير من العوامل منه السياسي الآني ومنه الحنين التاريخي والطموح التوسعي والعاطفة الدينية، حتى أصبح مجرد الخوض فيها يشعرك بالدوار لكثرة التفاصيل التي تكتنف المواقف وتعقيد شبكة العلاقات واختلاط المفاهيم، لقد استفادت ظاهرة التشيع العابر للحدود من حالة الضعف الثقافي والجهل بين كثير من أبناء الصحوة الإسلامية، فما هي خلفيات محاولة التمدد الشيعي التي تقودها إيران في المنطقة وما مستقبل المد الشيعي للمنطقة والعالم وكيف نواجهه دون الوقوع في مزالق الخطاب الطائفي البغيض وما تأثير كل ذلك على مستقبل الثورات المباركة وأحلام الشعوب الديمقراطية تحت ظل الدولة القادمة، لمناقشة هذا الموضوع نستضيف لكم أحد أهم المختصين في تاريخ التشيع في المنطقة وهو الدكتور محمد المختار الشنقيطي ونشكر له حسن قبول الدعوة وما سيخصصه لهذا اللقاء من وقته الثمين.
الدكتور محمد المختار الشنقيطي: بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، في البداية أشكر الأحبة في هذه الشبكة المباركة على إتاحة هذه الفرصة، الموضوع كما ذكر المقدم هو "التشيع العابر للحدود" وسنحاول تناول هذا الموضوع من جوانبه.
بدأ المقدم بالسؤال عن خلفيات الموضوع فيمكن القول إن هنالك عدة خلفيات أحدها الخلفية التاريخية.
الأمر الأول الذي لفت نظري في دراسة التشيع وهو أحد الأمرين الذين يفسران حالة التمدد الشيعي الحالي هو أمر يمكن أن نسميه "ظاهرة الذاكرة الموتورة" فالثقافة الشيعية كمخزون نفسي واجتماعي هي ثقافة انتقامية موتورة بطبيعتها، فهنالك مؤسسات دينية ومؤسسات ثقافية شيعية في أرجاء العالم الشيعي كل وظيفتها زراعة الانتقام والمحافظة على جذوة الانتقام والأخذ بالثأر والشحن النفسي والاجتماعي الذي يغذي هذه النزعة وهذه الذاكرة الموتورة، يختلف المؤرخون في تفسير هذه الظاهرة ويعتقد بعض علماء الاجتماع السياسي أن النفسية الفارسية هي نفسية متشائمة بطبيعتها وبعضهم فسر ذلك بسبب الفتوحات والصراعات العسكرية القديمة وخصوصا أن الفتوح الإسلامية الأولى جاءت على أيدي العرب، حيث هيمنوا على بلاد فارس فلما ضعفوا دخل الأتراك وهيمنوا عليها فهنالك إحساس للذات الجريحة للفرس يؤجج هذه الذاكرة الموتورة، وبعض الناس يفسر القضية تفسيرا دينيا وهو أن الأمر لا علاقة له بالقومية الفارسية أو العربية خصوصا القومية الفارسية لأن التشيع في جذوره كان عربيا وإنما الأمر يرجع إلى مذابح القرن الأول الهجري ضد آل البيت وما تركته من جراح وما بقي بعد ذلك من مسعى لإحياء ذاكرة تلك المذابح الأولى، ففي الحقيقة مهما يكن التفسير فما يهمنا الآن هو وظيفة هذه الظاهرة ودورها في التمدد الشيعي، وأرى أنه من غير فهم الذاكرة الموتورة باعتبارها مكونا أو عنصرا تكوينيا للثقافة الشيعية فإننا لن نفهم التشيع ولن ندرك مخاطر التمدد الشيعي، الموضوع الثاني المهم كخلفية تاريخية لظاهرة التمدد الشيعي هو ما أسميه "المنطق الإحلالي" فالثقافة الشيعية قائمة على أن مسار التاريخ الإسلامي هو مسار خاطئ وكان على ضلالة منذ بدايته حتى الآن وأن رسالة المسلم الشيعي هي تصحيح هذا المسار ورجعه إلى الطريق السليم، طبعا نحن نعرف أن التاريخ الإسلامي ليس تاريخا مثاليا ففيه نقاط انحراف وأهل السنة لا ينكرون الانحراف الموجود خصوصا بعد الخلافة الراشدة لكن بالنسبة للشيعة الأمر لا يتعلق بانحراف تاريخي بل بانحراف ديني منذ ليلة السقيفة فالصحابة رضي الله عنهم حسب الرؤية الشيعية قد خانوا الأمانة التي تركها النبي صلى الله عليه وسلم بأيديهم وغدروا بعلي رضي الله عنه الذي عينه النبي صلى الله عليه وسلم نصا إماما للمسلمين وعين ذريته من بعده أئمة للمسلمين، فمسألة الوصية بالنسبة للشيعة هي قضية اعتقادية فليست انحرافا تاريخيا، ليس عند أهل السنة مثلا أنه وقع انحراف تاريخي مثلا فالأمر بالنسبة لهم أكبر بكثير من مسألة اعتقاد لأن الإمامة ركن من أركان العقيدة عند الشيعة ومن لا يقول بها فهو كافر عند كثير من الشيعة، ولذلك هذه يمكن أن نقول إن أهل السنة يقولون بوجود ردة سياسية منذ نهاية الخلافة الراشدة أما الشيعية فيقولون بوجود ردة اعتقادية منذ ليلة السقيفة وبناء على هذه الرؤية التحليلية الشيعية للتاريخ الإسلامي فإن الشيعة عندهم مسعى إحلاليا بمعنى إزاحة هذا الإسلام المنحرف وإحلال الإسلام الصحيح مكانه وهو الإسلام الشيعي، أو إزاحة إسلام العوام كما يسمي الشيعة أهل السنة وإحلاله بالإسلام الصحيح عندهم، هذا المنطق الاحلالي تجسد تاريخيا في بعض الظواهر السياسية والعسكرية فما تقوم به إيران اليوم من تمدد في الجسد الإسلامي المجاور لها والجسد العربي منه تحديدا هو امتداد لظاهرة الإحلال في وجهها العسكري والسياسي التي وجدت في التاريخ السياسي الشيعي من قبل، فلو نظرنا مثلا إلى الدولة الفاطمية -وهي أول دولة شيعية هامة في التاريخ الإسلامي- وقد ولدت في القرن الثالث الهجري وكان يفترض بمنطق الإمبراطوريات الإسلامية (خصوصا الدول التي تنشأ على الأطراف) أن تتوسع الدولة الفاطمية جنوبا إلى إفريقيا أو شمالا إلى أوروبا، شأنها شأن كل الدول الإسلامية في عصر الفتوح آنذاك وفي صراع الإمبراطوريات السائد في العالم كله آنذاك، لكن الدولة الفاطمية لم تتجه للتوسع جنوبا في إفريقيا غير المسلمة ولا شمالا في أوروبا غير المسلمة وإنما اتجهت شرقا لغزو قلب العالم الإسلامي واتخذت من مصر قاعدة لها للتوسع إلى بلاد الشام والعراق وعينها على الخلافة العباسية لأن ما يتحكم في العقل السياسي الفاطمي آنذاك كما في العقل السياسي الإيراني اليوم هو إزاحة كيان وإحلال كيان محله، أي إزاحة الخلافة العباسية آنذاك وإحلال الخلافة الفاطمية مكانها، أو إزاحة الأنظمة العربية وإحلال نظام شيعي تابع لإيران في البلاد العربية كما هو حال الوضع اليوم، نجد أيضا ميزانا تاريخيا آخر على هذا المنطق الإحلالي وهو حينما تأسست ثاني دولة شيعية كبرى في التاريخ الإسلامي وهي الدولة الصفوية التي بدأت منذ خمسة قرون ونشأت نسبيا على أطراف العالم الإسلامي وكان يتوقع بمنطق صراع الإمبراطوريات وبمنطق عصر الفتوح أن تتوسع الدولة الصفوية شرقا إلى الصين أو شمالا إلى أوروبا الشرقية كروسيا وغيرها وأن تنشر الإسلام في تلك الجهات ولو كان إسلاما شيعيا لكنها لم تهتم بذلك، اتجهت الدولة الصفوية إلى الصراع مع العثمانيين في العراق أولا ثم في شمال الشام وشرق الأناضول، نفس ظاهرة التمدد التي نجدها عند الفاطميين شرقا نجدها عن الصفويين غربا ومرة أخرى تتجه إلى قلب العالم الإسلامي الذي هو الدولة العثمانية كما اتجهت قبلها الدولة الفاطمية إلى قلب العالم الإسلامي وهو الدولة العباسية فهذه الظاهرة ظاهرة مضطردة في التاريخ السياسي الشيعي، إذا وجدت دولة سياسية شيعية قوية فإنها تتجه إلى التوسع داخل الجسد الإسلامي ووضع عينها على قلب العالم الإسلامي في تلك اللحظة ولا تهتم بالتوسع على حساب الآخرين أصلا، هذه الخلفية التاريخية أعتقد أنها هي وحدها -أو هي العنصر الأساسي- الذي يفسر لنا ما نشهده من توسع إيراني اليوم، فلم تهتم إيران بنشر الإسلام منذ بدأت ثورتها في بلدان خارج مناطق العالم الإسلامي بل ذهبت طاقتها كلها إلى التمدد داخل الجسد الإسلامي كله، صحيح أن العراق قام بغزو إيران وأن هذا كان كارثة على الطرفين وعلى الأمة كلها ولكن كلما وجدت إيران فرصة ورفعت رأسها صارت إلى الوجهة والمسار التاريخي الذي قادته الدولة الفاطمية والصفوية قبلها، إذن هذه هي الخلفية التاريخية وهنالك خلفيات جوستراتيجية معاصرة تتعلق بالصراع على النفوذ والصراع على الموارد في المنطقة وتلعب إيران اللعبة بطريقة استخدام الأقليات الشيعية الموجودة في العالم العربي، ثم أيضا الثأر مع العالم العربي أمر واضح وإلا توجد أقلية شيعية مثلا في باكستان فلماذا لا تستغلها إيران في التوسع باتجاه باكستان لماذا لا تدخل إيران إلى أفغانستان فهناك أقلية شيعية في أفغانستان، فهنالك شيء خاص بالعلاقات العربية والفارسية في هذا ويرجع الأمر إلى بعض الحساسسيات التاريخية والعرقية والثقافية العميقة الجذور بين الأمتين وربما لا يوجد شعب يحمل صورا نمطية سيئة عن المعارضة في ذاكرته وفي آدابه أكثر من الفرس، وصورة الفرس في الأدب العربي هي صورة سيئة كذلك، وهنالك علاقة بين هذا وذاك بالإضافة إلى قضايا جوستراتيجية والموارد والنفوذ..الخ.
طبعا هذا كله للتفسير؛ لأنه في نهاية المطاف مهما كانت المطامح فهو لا يسوغ القة التي يتمدد بها التشيع، ثم إن المد الإيراني أيضا يختلف عن التمدد العربي أو أي تمدد آخر، ذلك أنه يسعى إلى تغيير بشري ومذهبي، والتمدد العربي سواء في إيران أو التمدد حتى الأوربي الغربي لا يسعى إلى هذا النوع من الإزاحة والإحلال فتلك ظاهرة شيعية إلى حد كبير وهي تتعلق بالمخزون النفسي والاجتماعي الشيعي المتعلق بالذاكرة الموتورة وبالمنطق السياسي والاستراتيجي الشيعي الذي ينبني على فكرة الإحلال.
أما السؤال عما هو مستقبل ظاهرة التشيع العابر للحدود فأرى أنه في المستقبل سيشعل حرائق كثيرة في جسد الأمة، فبعد تمدد الدولة الفاطمية انتهى الأمر في النهاية إلى انحسار التشيع في كل المنطقة التي تمدد فيها كمصر وغرب البحر الأحمر والقيروان حتى شرق البحر الأحمر في بلاد الشام والجزيرة العربية ورجع التشيع إلى ارض العراق منبعه الأصلي ومن هناك بدأ ينزح شرقا إلى إيران حيث أضجت إيران مركز الثقل في التشيع، فلا أستبعد أن هذه الحروب التي تشعلها إيران اليوم ستنتهي في النهاية -بعد إحراق الكثير من الحرائق والتسبب في الكثير من الآلام- إلى شيء من الإحياء السني ودفع إيران إلى حدودها وانحسار التشيع العربي لأن الشيعة العرب في النهاية قد انتحروا بقبولهم أن يكونوا أداة بيد إيران في هذه الحالة التمددية غير الطبيعية، وأي أقلية تحولت إلى أداة بيد جهة خارجية ضد غالبية يقول الدرس التاريخي إنها ستفقد رصيدها التاريخي ومكانتها في المجتمع وقد حدث هذا للأقليات المسيحية أيام الحروب الصليبية وحدث للشيعة أنفسهم أيام الحروب الصليبية خصوصا الشيعة الإسماعيلية الذين كانوا إما مساندين للصليبيين أو متخاذلين للتعاون معهم، وأعتقد أن هذا سيحدث مع الشيعة العرب بعد انحسار حالة التمدد الإيراني، وحالة التمدد الإيراني ستتوقف لأن غالبية الأمة لن تقبلها ولأن هنالك دول ستتحول إلى مركز الثقل في الكتلة السنية مثل تركيا وربما السعودية إذا حدث تغير في نظامها السياسي الحالي وكذلك مصر إذا وقع تغير سياسي فيها وكذلك سوريا إذا تغيرت موازين القوة فيها وهذا كله أمر وارد في نهاية المطاف، فإيران في النهاية لا تملك القدرة والإمكان على المحافظة على ما كسبت من تمدد في الأعوام الأخيرة وهناك مشكلة إستراتيجية تقع فيها الكثير من الدول وهي أنها تأكل أكثر مما تستطيع أن تعمل، لما تتوسع الدول وراء إمكاناتها فإنها تنتهي في النهاية بالانحسار وربما حتى بالانهيار ولذلك أعتقد أن مستقبل التمدد الشيعي هو مستقبل سيكون قاتما بالنسبة للشيعة وإن كانوا أيضا سيسببون -وقد سببوا- الكثير من الآلام للسنة وللأمة كلها إضعافا لجسدها ومناعتها وفتح الباب للتدخلات الخارجية فيها ولكن هم الخاسرون على المدى البعيد.
أما سؤال كيف نواجه موجة التمدد الشيعي العابر للحدود دون أن نقع في الخطاب الطائفي فأعتقد أننا نحتاج أن نفصل بين الأمرين، بين العقائد والسلوك السياسي فالله عز وجل يحاسب على العقائد ونحن نعيش مع أناس لا يؤمنون بالإسلام أصلا وإنما يؤمنون بديانات أخرى أو لا يؤمنون بشيء، والمجتمع الإسلامي كان دائما مجتمعا فيه تنوع ديني، لا أقصد تنوع مذهبي وإنما تنوع بين أديان مختلفة، فإذا كنا نستطيع أن نعيش مع من ينسب لله تعالى الولد فإنه من باب أولى نستطيع أن نعيش مع من يسب الصحابة أو يرتكب أمورا أقل من هذا، فمن المهم أن نفصل في المسألة بين الجانب ألاعتقادي والجانب العملي فلو كانت درجات العداوة مع الناس ترتب ترتيبا اعتقاديا لكان على المسلمين أن يذهبوا لمحاربة الوثنيين أولا في أرجاء العالم ثم بعد ذلك أهل الكتاب ثم بعد ذلك الطوائف المنتسبة للإسلام، المسألة إذن من الناحية الشرعية البحتة لا علاقة لها بذلك فالمسلمون لا يعادون الناس بسبب عقائدهم وإنما بسبب ظلمهم ولذا أرى أننا نحتاج إلى رسالة واضحة تبث في الثقافة السنية وهي أننا نواجه الشيعة بسبب بغيهم لا بسبب اعتقادهم فالعقيدة فكرة والفكرة لا تواجه إلا بالفكرة، إنما الذي يواجه مواجهة عسكرية وسياسية هو البغي العسكري والسياسي، وفي هذه اللحظة ليس لجمهور هذه الأمة وقلبها وكتلتها السنية الصلبة إلا أن تواجه التمدد الشيعي العابر للحدود مواجهة عسكرية وسياسية وثقافية وإستراتيجية، لكن من المهم جدا أن تكون الرسالة أيضا واضحة وهي أننا لا نواجههم بسبب عقيدتهم فنحن لدينا من هم أسوأ منهم عقيدة وليس بيننا وبينهم مواجهة وإنما بسبب بغيهم وظلمهم والمسلم يقف مع المظلوم ضد الظالم ومع المعتدى عليه ضد الباغي والجهاد ليس قتالا على العقائد وإنما هو موقف أخلاقي ضد الظالم وليس موقفا اعتقاديا ضد كافر، ففي نهاية المطاف أنت لا تقاتل الناس لأنهم كفار وإنما تقاتلهم لأنهم ظلموا والله قال في محكم كتابه (قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) فواجب الأمة اليوم أن تواجه هذا التمدد الشيعي وهو خطير جدا خصوصا إذا نظرنا إليه من ناحية الجغرافيا السياسية، فإذا أردنا أن ندرك مخاطر التمدد الشيعي العابر للحدود فنحن بحاجة إلى وضعه ضمن منطق الجغرافيا السياسية وهنا أن أحيل على نظرية الدكتور المصري الشهير جمال حمدان عالم الجغرافيا السياسية وهي قوله إن قلب العالم الإسلامي من حيث الجغرافيا السياسية يشبه الطير فهو طائر له جناح في آسيا وجناح في إفريقيا وآخر في الجزيرة العربية وصدر هذا الطير هو مصر ورأسه هو الأناضول تركيا، والجامع لعناصر هذا الطير من ناحية الجغرافيا السياسية هو بلاد الشام فهي تقع ما بين هذه الكتل الثلاث التي تجمع جسد الطير.
الخلاصة من ناحية الجغرافيا السياسية هو أن التمدد الشيعي ليس فقط خطير لمجرد أنه تمدد وإنما أيضا لأنه يقع في قلب القلب من الحضارة الإسلامية بمعنى المنطقة الواصلة ما بين الجزيرة العربية ومصر والأناضول وبالتالي أثره مهلك لجسد الأمة لأنه لا يتمدد على أطرافها وإنما يتمدد في قلبها فلا قيام للأمة من غير مواجهة هذا التمدد وأرى أن هناك لحظتان نحتاج الفصل بينهما، الأولى لحظة "قاتلوا التي تبغي" والثانية لحظة "وأصلحوا بينهما بالعدل" ونحن الآن في اللحظة الأولى وواجب الأمة الأمة فيها هو مواجهة هذا التمدد على جميع المستويات حتى تصد الباغي وتأخذ على أيدي الظالم حتى يدرك الظالمون أنهم أقلية وحينها ننتقل إلى اللحظة الثانية وهي لحظة "وأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا" وأذكر أنه في هذه المواجهة لابد دائما من التمييز بين العقيدة والسلوك العملي فأهل السنة لا ينبغي أن يواجهوا الشيعة لأنهم شيعة فالعداوة في النهاية لا تترتب حسب اختلاف الاعتقاد وإنما حسب الظلم وحينما نقول مواجهة الشيعة فإننا نقصد بذلك الظالمين منهم فقط.
أما سؤال ما مدى تأثير هذا على الثورات العربية فأرى أنه كان تأثير خطيرا جدا، كان من الممكن أن تقف إيران مع الثورات لو كان لديها ضمير فالثورات في النهاية كانت ضد حكومات موالية للغرب وللقوى الدولية لكن غلب الغرور والمنزع الطائفي في إيران، وفي النهاية استغلت غبار الثورات وهي فوضى طبيعية ملازمة لكل الثورات ثم أدركت أن هناك قوى دولية شرقية وغربية معادية للثورات وأن تلك القوى الدولية تبحث عمن يقوم عنها بالمهمة القذرة وقررت هي أن تقوم بذلك استغلالا لمظلة القوى الدولية فتأثير التشيع العابر للحدود على الثورات العربية تأثير مدمر ومؤذي إلى حد كبير وهناك مؤشر آخر على خطورة هذا التشيع لو أنه تمدد في لحظة أخرى غير لحظة الثورات لكان ضرره أقل بكثير أما أن يتمدد في لحظة حرب أهلية فهذا هو مكمن الخطر وهو ما فعلته إيران.
فأخطر ما فعلته إيران بالثورات العربية أنها حولتها من صراع داخلي بين حكام ومحكومين إلى حرب مزدوجة بمعنى أن السوريين الآن يحاربون بشار الأسد كمستبد ولكنهم يحاربون أيضا جيشا غازيا وهو جيش إيران وبالتالي لم تعد الحرب مجرد حرب حرية سياسية وإنما أيضا أصبحت حرب تحرير وطن وإذا اجتمعت حربان في حرب واحدة فستكون الكلفة باهظة والثمن فادح في الغالب.
موقع الفكر: ألا يمكن أن يؤدي تطور الأوضاع السياسية في المنطقة إلى انكماش إيران ثم تسممها من الداخل خاصة أن بعض الدارسين يرى أن المؤسسة الدينية الحاكمة مفصولة عن كثير من النخب العلمانية الموجودة في مختلف قطاعات المجتمع التعليمية والصناعية والاقتصادية؟
الدكتور محمد المختار الشنقيطي: من الطبيعي أن يؤدي التمدد الشيعي العابر للحدود إلى انكماش فأنا متأكد من أنه سيكون هناك انكماش وانحسار للتشيع خصوصا العربي منه لأن التشيع العربي سيعاني في النهاية من نبذ داخل الأمة كلها بسبب ما يتسبب فيه من أذى وما قبله من استعمال من طرف إيران ضد امتداده البشري أما داخل إيران ذاتها فربما يكون هنالك مساران ممكنان إما أن تتجه إيران مستقبلا نحو التسمم أو تتجه نحو العلمنة والتحرر من الدين تماما، طبعا المجتمع الإيراني من المجتمعات العلمانية على المستوى الاجتماعي بغض النظر عن النخبة المتصدرة الآن على السطح لكن هل يعني هذا أن هذه العلمانية هي علمانية عابرة كما هي العلمانية في تركيا أم أن هذا التحول العلماني سيكون بداية للتحول العميق ويكون فيه مستوى من التخلي عن الإسلام بشكل أو بآخر، وأنا أرجح أنه في النهاية إذا تعافى قلب الأمة وانهزم التمدد الشيعي وانحسر التشيع في البلاد العربية ستجد إيران نفسها محاطة بدول إسلامية سواء في العالم العربي غربا أو في العالم الآسيوي المسلم شرقا وستجد أنه من الصعب عليها الابتعاد عن التيار العريض في الأمة وربما تنبعث جذورها السنية من جديد أو جذورها الآرية فتتجه إلى الغرب لكن أعتقد أن جذورها السنية أقرب إلى الانبعاث لأن الجذور الآرية تحتاج إلى جاذبية وأوروبا لم تعد جاذبة كما كانت في الماضي والله أعلم.
موقع الفكر: هل ترون إمكانية للحوار بين السنة والشيعة وما هي الأسس التي ينبغي أن يقوم عليها مثل هذا الحوار؟
الدكتور محمد المختار الشنقيطي: أنا من دعاة التعايش بين السنة والشيعة دائما ولست من دعاة التقارب بينهم، وأرى أن هذان مساران مختلفان ففكرة التقريب بين المذاهب الإسلامية كما طرحت في الماضي كانت عبارة عن نوع من العلاقات الدبلوماسية بين الفقهاء ونوع من تعسف التقريب بين عقائد ومذاهب متباينة وأقوام يختلفون في مصادر التشريع عندهم، أرى أن هذا النوع من المجاملات في الدين غير مفيد أصلا فما يفيد هو النزاهة والإنصاف والاعتراف من طرف الجميع بحق الاختلاف اتجاه الآخر دون التكلف في التقريب بين أمور لا يمكن التقريب بينها فالتعايش ممكن بين كل الأديان والعقائد وأرى أن أهل السنة إذا واجهوا إيران مواجهة عسكرية وسياسية وأعادوها إلى حدودها فإن ذلك هو أفضل طريقة للتعايش فالتعايش لا يكون بين قوي وضعيف وإنما بين أناس يكون ميزان القوة بينهم متقاربا وأرى أنه في النهاية سيكون هنالك تعايش لكن بعد أن يقف أهل السنة على أرجلهم ويدفعون الصائل الشيعي إلى حدوده بالردع وسيكون التعايش ممكنا حينها.
موقع الفكر: أثناء العرض دعوتم إلى ضرورة إبعاد البعد العقدي في الصراع في حين أن هذا البعد مكون أساسي في طرح الطرف الإيراني وهو محفز أيضا للفعل في بلدان عربية وإسلامية فكيف نوفق بين تنحية الجانب السني لهذا العامل في حين أنه جزء أساسي من المعادلة لدى الطرفين في المقابل؟
الدكتور محمد المختار الشنقيطي: أنا لا أدعو إلى إبعاد الجانب الاعتقادي من الموضوع وإنما أدعوا إلى التمييز بينه وبين الجانب السياسي والاستراتيجي والعسكري، أنت لا تقاتل الناس بسبب عقائدهم لكن تحاورهم وتناقشهم وتناظرهم وترد عليهم وتبين زيف عقائدهم، الحوار للمختلف معك عقيدة أما القتال فهو للصائل الباغي سواء اختلف أم اتفق معك في العقيدة فالباغي سواء كان سنيا أو شيعيا يجب قتاله {فقاتلوا التي تبغي} أما من ليس باغيا أو ظالما فلا يجوز قتاله مهما اختلف معك في العقيدة فهنالك مجالان نحتاج الفصل بينهما ولا يعني ذلك عدم أهمية أي منهما وإنما يعني ألا نستعمل أدوات معركة في معركة أخرى فينبغي أثناء اختلاف الاعتقاد أن نستعمل الأدوات المناسبة لذلك كالحوار والجدل وأن نستعمل في العدوان السياسي والعسكري الأدوات الخاصة لذلك، نحن الآن وللأسف نقوم بالعكس فمنا من يدعو إلى قتال الشيعة سواء المعتدي منهم وغير ذلك ومنا من لا يريد أن يقاتل وينشغل بالتكفير بدل مقاتلة من جاء لقتاله.
موقع الفكر: ما هي الجهة أو الدولة المؤهلة لقيادة الأمة في مواجهة هذا المد الشيعي سواء كان بالحوار أو بالعمل العسكري؟
الدكتور محمد المختار الشنقيطي: الدول السنية الكبرى مؤهلة لمواجهة إيران لكن تحتاج للإرادة السياسية والإمكان وفي هذه اللحظة الحاضرة هنالك دولتان فقط يستطيعان مواجهة إيران وهما تركيا والسعودية وأرى أنهما في نهاية المطاف سيفعلان ذلك فإن لم يفعلانه اختيارا سيفعلانه اضطرارا.
موقع الفكر: مرة كتبكم على صفحتكم "أنقذوا سنة البحرين بإنصاف شيعتها" هل ما زلتم عند هذا الرأي؟
الدكتور محمد المختار الشنقيطي: الإنصاف مفيد دائما وهو واجب شرعي والظلم لا يجوز في أي ظرف وتعجبني دائما كلمة ابن تيمية "إن العدل واجب لكل أحد على كل أحد في كل حال" فالظلم لا يباح قط بأي حال من الأحوال وتعامل إيران مع سنتها ليس قدوة لنا في التعامل مع الشيعة وإنما يفترض أن نكون أصحاب مبدأ وأن ننصف الشيعة حيث ينبغي إنصافهم إذا ظلموا.