شيّدها المرابطون..أقدم قنطرة في المغرب تستغيث من الإهمال والتخريب

هذه القنطرة بكل جلالها، وعبق تاريخها، وهندستها الأخاذة.. استحقت أن تكون البوابة الطبيعية والمنفذ الوحيد لمدينة مراكش عبر كل أزمنة هذه المدينة الخالدة.. قنطرة وادي تانسيفت الوحيدة بالمغرب التي يكاد عمرها يناهز الألف سنة، إذ يعود تاريخ تشييدها إلى عهد الأمير المرابطي علي بن يوسف بن تاشفين، وأعيد ترميمها للحفاظ على هندستها الرائعة في العصر الموحدي بعد الفيضان الطوفاني الذي كان قد دمر جزءا منها،.. وبالقرب منها كانت تجتمع جحافيل المجاهدين المغاربة بالآلاف، والتي كانت تأتي من كل حدب وصوب.. على اتساع رقعة الوطن للتدريب، وتوحيد الصفوف، وإعداد خطط الدفاع عن أرض الوطن، من أقصى جنوب الصحراء إلى نهاية الحدود في أقصى الشمال بالأندلس، ذلك الفردوس المفقود، حتى ليقال إن كل نخلة موجودة فيما يعرف اليوم “La Palmeraie”: النخيل شرق وادي تانسيفت، وواحة سيدي إبراهيم في غربها.. هو من نواة ثمور أولائك المجاهدين الذين كان جل زادهم حبات تمر مع كسرة خبز أو (زميطة) يقتاتون بها لسد الرمق بعد إلقاء نواة ثمورهم في الأرض، فكانت تلك المعجزة غابات النخيل التي أصبحت شرق الوادي اليوم مرتعا لبناء الفنادق الفخمة والقصور التي لا يعرف العالم الحديث في كل أرجائه تشييدا لمثيلاتها!، بينما غرب الوادي توجد فيه واحة سيدي إبراهيم التي كان مخططا لها أن تكون أجمل منطقة في العالم، ويكاد اليوم نخيلها يصبح أثرا بعد عين.!

 

الحاضرة المتجددة شعار ملكي رائع لمدينة مستحقة.. لكن؟!

لقد اختار جلالة الملك محمد السادس لمدينة مراكش شعار ” الحاضرة المتجددة” وأي حاضرة منشودة تتجدد إذا هدمنا الأسس التي أعطتها لقب الحاضرة، قبل أن تنالها العناية الملكية.. لتصبح الحاضرة المتجددة.؟ قنطرة الألف سنة تستغيث وهي بدون منازع عبق التاريخ ومدخل الحاضرة المتجددة، فهل من مغيث لنداء الحفاظ على هذا التراث المعماري الخالد كمزار تاريخي وحضاري؟؟؟ وتشييد قنطرة بديلة لما شيد في العقدين الأخريين، جديرة بأن تكون مدخلا للحاضرة المتجددة، تتفوق في شكلها، وهندستها، وتصورها خيال أي مهندس عبقري، تخليدا للعبقرية المغربية في القرن الواحد والعشرين تستطيع الصمود لقرون مخلدة عهد ملك أراد أن توصف مدينة مراكش بلقب الحاضرة المتجددة. نهر تانسيفت وللتذكير فإن هذه القنطرة توجد فوق أحد أنهار المغرب الكبرى “وادي تانسيفت” والذي يبلغ طوله 250 كلم من منبعه في شرق الأطلس الكبير، مارا شمالا بتيزنتيشكا حيث ينتهي بمصبه في المحيط الأطلسي قرب القلعة القديمة: (الصويرية) حوالي 30 كلم جنوب مدينة آسفي، ويقول الخبراء اليوم أن هذا الوادي لو استغل بطريقة معقلنة لكان مفخرة للمغرب من خلال بناء قنطرة صناعية بحرية.. تمكن من تخزين الملايين من مياه الأمطار على مدار السنة، وتلعب دور متنفس للمدينة، إنه ما من شك أنه مشروع ضخم ومكلف، لكنه ليس بالمستحيل، مقارنة بما أنجزته الصين مثلا من تحويل مياه أنهار الشمال إلى الجنوب خلال خمسة عقود، بدأت في عهد مواتسيتونغ بالآليات البسيطة المعروفة وهمة الإنسان، وانتهت في الزمن الذي حدده، والصين تستعمل أكبر الآليات التي اخترعها العقل البشري، ومن ثمة فإن أي إنجاز من هذا الحجم بعد الثورة التكنولوجية المشهودة في وسائل الإعمار والإنشاء لم يعد معها شيئا مستحيلا، إذا توفرت الإرادات الخيرة القوية التي تنشد تحقيق المستحيل، وهو مشروع ليس مستحيلا على إرادة من أنجز الكثير من المشاريع العملاقة في التاريخ الحديث لوطننا في زمن قياسي، وأطلق شعارا خالدا على مراكش بكونها الحاضرة المتجددة، وهو شعار ليس للاستهلاك وليس لليومي واللحظي فقط ولكنه شعار لأبد الآبدين، وفي مستقبل الأزمان لتبقى مراكش الحاضرة المتجددة حقيقة ماثلة للعيان. وللتذكير بالتاريخ القريب المثير للعجب والدهشة الإشارة إلى أن وادي تانسيفت (كان) يحمل بين أحشائه سمك الترويتات (Truites) وهو سمك صغير وقوي ولحمه أحمر طعمه لذيذ المذاق وهو من الأنواع المفضلة في مراكش بل يعد من أفضل أنواع السمك في العالم..(هذا ما كتبه جان موكي أول رحالة فرنسي زار المغرب في بداية القرن السابع عشر في رحلته، والتي ترجمها إلى العربية العالم المعجمي الاستاذ عبد الغني أبو العزم) وهو يصف في رحلته ما اصطاده لنفسه تحت القنطرة التاريخية المتحدث عنها، ولا تستغرب وأنت تقرأ هذه الرحلة أن يصف مدينة مراكش بأنها المدينة التي تستحق هذا اللقب وليست باريس!.

 

مراكش الحاضرة المتجددة في القلب وفي الذهن وفي الخيال

وكلمة أخيرة.. وبالمختصر المفيد، ولنبدأ من الأخير كما يقال.. إذا لم تبق الكتبية تلك السبابة المشيرة إلى السماء صادعة الله أكبر، وتعطير سماء الحاضرة المتجددة باسم نبيه سيدنا محمد (ص) خمس مرات في اليوم، مصونة في مكانها، محافظا عليها، وعلى محيطها، وكشف خباياه،..إذا لم يبق مسجد علي بن يوسف بن تاشفين منارة علمية نستضيء بها في حاضرنا، وفي مستقبل الأيام، والتذكير بمكانتها العلمية، وتخليد أسماء المارين في حلقاتها ودروسها العلمية، نظير ابن رشد، وابن طفيل، وابن البناء المراكشي العددي، وابن الحسن المراكشي الذي علا اسمه أخيرا بعد ما أطلق جلالة الملك اسمه على باخرة علمية،.. وغيرهم من القامات العلمية السامقة في تاريخ الإنسانية،.. إذا لم يبق باب أكناو شاهدا على ما وصلت إليه العبقرية المغربية في القرون الوسطى بنحث الحجارة فوق أبواب القصبات والمدن،.. إذا لم تبق قبة المرابطين بكل رمزيتها الحضارية في المعمار الإنساني وفي توزيع المياه والتسهيل على المصلين في إقامة شعيرة الصلاة مصانا ومحافظا عليها،.. إذا لم تبق آثار قصر البديع محافظا عليها كإرث حضاري، وحاضن مسرح وترفيه،.. إذا لم يبق منبر الكتبية بمئات السنين التي حملتها زينتها المنحوتة في خشبه بكل تاريخه، ويختار له تلك البقعة الأجمل الموجودة بجانب مسجده الذي انتزع منه، ولتشييد قبة من زجاج، يوضع تحتها فوق أرضية دوارة من اليسار إلى اليمين كأنه في طواف أبدي يذكر بحضارة الإسلام وعبقرية المغرب في عز حضارته الأندلسية ليشهد زواره عبقرية أبناء هذا الوطن وليصبح قبلة للزائرين،.. إذا لم نحافظ على مدرسة بن يوسف كأقدم وأجمل حي جامعي بكل هندسته وزخرفته،.. إذا لم نصن الحوض المائي الرخامي المنقوش والمحمول من الأندلس إلى هذه المدرسة، وإحاطته بقفص زجاجي من جهاته الأربع للحفاظ عليه، وعرضه كتحفة فنية مبهرة في نفس المدرسة ،.. إذا لم نحافظ على السوق الكبير والعريق لمدينة مراكش بكل ما يرمز إليه من عبق التاريخ، وما قدمه تجار هذا السوق في تاريخنا الحديث من تضحيات جسيمة في سبيل تحرير الوطن، وتحرير المغفور له محمد الخامس من أسره في منفاه وعودته إلى عرشه وجعله مزارا رائعا بالحفاظ على ممراته بأسماء الحرف والمهن التي تحملها. ولو بالحفاظ على دكان واحد رمزي تمارس فيه الحرفة التي أعطته اسم الممر،.. وفي قسارياته على أسباب تنوعها وأنواع التجارة والحرف التي كانت تمارس داخلها،.. وجعل سوق الغزل (مثلا) سوقا يرمز إلى نبذ الإسلام للعبودية على غرار ما نشاهده في دول أخرى،.. إذا لم نعتن بساحة جامع الفنا عناية حقيقية صادقة واعية، مؤطرة بالعلم والمعرفة،.. والكفاءات من بررة أبناء مراكش الذين يحملون همها بتراثها وثرائها وزخمها ونجوميتها وصعودها وهبوطها وتاريخها المكتوب والمحكي مع الاستعانة بالمهندسين المهتمين بالآثار والمعمار التاريخي، وكل الكفاءات القادرة على الخلق والإبداع، حتى تبقى هذه الساحة تراثا إنسانيا شفويا حقيقيا يعبر عن حضارة وليست مجرد ساحة للأكل والشرب رغم أهمية المطعمة في حضارة الدول إذ قدمت بذوقها وأصالتها وطقوسها وأناقة تقديمها،.. إذا لم نحافظ على أسوار مدينة مراكش وترميمها بأسلوب حضاري وعلمي، وإزالة كل البنايات العشوائية التي يسمح بها تحت أنظار المسئولين..، لأنها تاريخيا معترف بها عالميا، إذ هي أطول سور مدينة في العالم،وعلى كل أزقة ودروب ومزارات وسقايات و أرواض وفنادق ودور وحدائق وكل ما هو داخل المدينة العتيقة التي تعتبر من بين مدن العالم القديمة القابلة للعيش في العصر الحديث بكامل محافظتها على أصالتها ومعمارها وعبق تاريخها. إذا لم .. إذا لم.. إذا لم بدون حدود ولا نهاية.. فأي مراكش تلك التي نحبها تبقى لنا وللأجيال من بعدنا؟، وأية مراكش نتحدث عنها..؟ وأي تجديد منشود للحضرة المراكشية لتكون جديرة فعلا وحقيقة بلقب أو شعار الحاضرة المتجددة كما تخيلها خيال ملك في بداية القرن الواحد والعشرين. :

المصدر:  العمق المغربي