المشهد القادم من أوكرانيا: الجميع "لاجئ محتمَل"/ياسين اكتاي

ياسين اكتاي

بغض النظر عن أسباب الهجوم الروسي على أوكرانيا في ميزان العلاقات الدولية وموازين القوى السياسية، إلا أن الدراما الإنسانية التي نراها أمامنا لا تختلف في النهاية عن بقية الحروب والصراعات. طالما كان الغربيون يشاهدون هذه الدراما والمأساة في المجتمعات غير الغربية لفترة طويلة جدًا، كسلسلة من الأفلام. دون تحمّل أي مسؤولية أو الشعور بتأثير ذلك بأي شكل على حياتهم، أو حتى الشعور بتأنيب الضمير.

لا تدور رحى هذه الحروب التي تحولت إلى روتين عادي إلا في بلاد المسلمين؛ في إفريقيا أو آسيا البعيدة. وحقيقة الأمر هي أن هذه الحروب ذاتها تجري بـ"الوكالة" عن القوى الغربية في مناطق تتقاسم فيها السلطة والموارد.

أما الأمر الذي يبدو غريبًا بعض الشيء في الحرب الأوكرانية هو أن مشاهد الدراما التي يرونها على مضض يجري تصويرها على أراضيهم؛ أي أراضي الغرب. وكلما أمعنوا في المشاهدة أصيبوا بصدمة جعلتهم يدركون أن ما يجري ليس فيلما بل حقيقة. وللوهلة الأولى تحت تأثير هذه "الصدمة" لا يتمكنون من حبس المشاعر والأفكار المختزنة في داخلهم، بل نراها تنسكب تباعًا فتفضح ما يجول بخواطرهم.

على سبيل المثال، كانت كلمات الأمير البريطاني دوق كامبريدج "وليام" خلال زيارته المركز الثقافي الأوكراني في لندن، تعبيرًا عفويًا عن العقل الباطن الغربي، حين قال أن "البريطانيين اعتادوا رؤية الصراع في إفريقيا وآسيا، لكن من الغريب جدًا رؤية هذا في أوروبا. ولم ينس هذا الأمير وليام أن يخبر المتطوعين في المركز "أنه لأمر غريب للغاية أن نرى هذا في أوروبا. بريطانيا وبقية أوروبا متحدون وراءكم".

لكن في المقابل أيضًا نجد صوتًا مختلفًا عن صوت الأمير وليام ومن أوروبا ذاتها، ففي كلمة للبرلماني الأيرلندي "كلير دالي" خلال جلسة عقدها البرلمان الأوروبي حول اللاجئين من أوكرانيا، عبر دالي بوضوح عن حالة الصدمة التي تعاني وستعاني منها أوروبا حيال ذلك، منتقدًا "المعايير المزدوجة" للأوروبيين حيال أوكرانيا من جهة وأفغانستان من جهة أخرى، كما سأل النواب البرلمانيين الأوروبيين عن عدم اكتراثهم للأزمة الإنسانية التي يعيشها الشعب الأفغاني مثلًا.

يقول البرلمانيّ الأيرلندي "دالي": "لا شك أننا نعيش في زمن الأزمات الكارثية حيث تزهق أرواح المدنيين الأبرياء ضحية حروب أسيادهم. نعم في أوكرانيا مأساة، لكن ليس أوكرانيا فحسب؛ فمنذ انعقاد الجمعية العامة الأخيرة إلى الآن اضطر عشرات آلاف المواطنين الأفغان للفرار بحثًا عن الغذاء والأمن. بينما يواجه 5 ملايين طفل المجاعة والمعاناة والموت والألم، أيضًا حدث ارتفاع بنسبة 500% في زواج الأطفال وبيعهم كي يبقوا/يبقين على قيد الحياة. لكن أيًّا من ذلك يم يُذكر، لا هنا ولا في أي مكان آخر".

بالطبع سؤال البرلمانيّ دالي يجب أن لا يقتصر على الوضع في أفغانستان فحسب، بل يمكن النظر كذلك إلى سوريا واليمن وكشمير وميانمار لرؤية أبعاد المأساة المنعكسة على الأطفال بأحدث أشكالها.

لا ندعو بالتأكيد لعدم الاكتراث كذلك إزاء الأزمة الأوكرانية بسبب عدم الاكتراث الحاصل إزاء الأزمات الأخرى، بل على العكس، ما نريده هو أن تساهم هذه الأزمة في أوكرانيا في لفت شعور واهتمام البشرية نحو الأزمات الأخرى في العالم، بغض النظر عن الدين أو اللغة أو العرق أو الجغرافيا.

عليهم أن يدركوا أن الأزمات الحاصلة في أماكن أخرى من العالم لا تقل حجمًا عما يجري في أوكرانيا، وأن المشاهد التي كانوا يرونها صدفة عبر شاشات التلفاز فيغيرون القناة كردة فعل غير مكترثة تفوق في قسوتها وفظاعتها ما يجري في أوكرانيا بمرات عديدة.

تجاوز عدد اللاجئين من أوكرانيا إلى دول أوروبا أكثر من مليوني شخص مع نهاية الأسبوع الثاني من الحرب فقط. هذا الرقم يمثل في الواقع تحركًا سكانيًا غير مألوف يتجاوز بكثير ما حدث بسوريا من حيث أزمة اللجوء.

إن اضطرار المرء إلى مغادرة منزله وأرضه ووطنه مأساة كبيرة بحد ذاته. وإذا كان المسيحيون ذوو البشرة البيضاء والعيون الزرقاء قد أضحوا لاجئين، فإن عبارة "يمكن أن يكون كل شخص لاجئًا يومًا ما" باتت حقيقة وليس مجرد محفوظات أو مأثورات لا معنى لها عند معظم الناس.

إن اللجوء هو حالة يمكن لأي شخص أن يتعرض لها في هذا العالم الغريب بطبعه الذي نعيش فيه. ولذلك فإن تقبل اللجوء وقبول اللاجئ حق من حقوق الإنسان، ويجب أن يتحول إلى قيمة مشتركة للبشرية كلها. وفي المقابل حينما يتغاضى البعض عن هذا الحق بجعله مسألة أمن وسيادة واختزاله في مفاهيم لا تمت للأخلاق بصلة، يتحول إلى سبب للابتعاد عن الإنسانية أشواطًا طويلة.

الجانب المأساوي في الأمر هو أن الغالبية العظمى ممن يتخذ موقفًا سلبيًا ضد اللاجئين، لا بد أن يكون لديهم ماضي لجوء سواء في ماضيهم أو ماضي أسلافهم.

إن اللاجئ هو شخص غريب يجب التعامل معه كإنسان أولًا وليس من خلال النظر إليه كتهديد أمني كما يُعتقد. هناك عبارة شهيرة لعالم الاجتماع البولندي زيجمونت بومان، يقول فيها "ليس اللاجئ شخصًا غير مكانه، بل شخص فقد مكانه. فقد وطنه لكنه لم يتمكن من العثور على وطن جديد".

هذه العبارة تصلح لجميع حالات اللجوء. فهذا الوضع لا يتعلق بأن اللاجئ لم يتمكن من تبنّي الوطن/المكان الذي جاء إليه، بل للأسف لأن المكان الذي لجأ إليه لم يتبنّاه في معظم الأحيان. حينما يذكّره شخص ما باستمرار أنه لا ينتمي لهذه الأرض يتحول اللاجئ إلى حالة وجود مأساوية لا تنتهي.

مع ذلك، فإن اللاجئ/اللجوء أمر ثاتب يوثقه التاريخ وعلم الاجتماع بأمثلة لا تحصر، ويُثبتان أنه في الغالب ما يساهم في خدمة الوطن الذي لجأ إليه أكثر من مواطني هذا الوطن ذاته. لأنه بسبب معاناته من القلق الشديد يندفع نحو العمل أكثر من غير بكثير، ويتشكل لديه وازع يدفعه نحو العمل بشكل أكثر حزمًا وإنتاجية، وإيلاء المزيد من الاهتمام لعلاقاته في الوقت ذاته.

من جانب آخر، هناك جانب من العالم الحديث الذي نعيشه يجعلنا كلَّنا مهاجرين. وربما يكون هذا هو أحد الدوافع وراء حركة العالم ونموّه الكبيرين، وزيادة حجم التكنولوجيا الإبداع.

كلنا لاجئون، لكن لمَن ومن أين وكيف؟

 

  •