هذا الإشكال أَسَرَنِي ،فلم يَعُدْ بُدّ من نثره وسَبْرِ أغواره والتّعرف على أسباب الغَرام بين الجيش والدّيمقراطية وقصة الدّبابة مع الثّورة وأين نضالات الطّبقة المسحوقة والحراك الشّعبي ، ولماذا نخبة العسكر أزكى من نُخَبِ القوم فينا؟ .... زَادَنِي إهتماما بالموضوع ،بَثّ تلفزيوني فى قناة وطنية ،يعالج إشكالية الديمقراطية والنّخبة وهي مواضيع سَطَّرْنا عنها مقالات سابقة ولا بأس من ثرثرة بعض المفاهيم والإنطباعات عنها ، إسهامًا فى تنوير الرأي العام الوطني وحتى يَتَشَكل الوعي الجمعي حولها!!!!! الدّيمقراطية نمط من أنماط الحُكم ،يتجسد فيه البُعد التّشاركي للشعب ،وهي أرقى نماذج وأشكال الحُكم التى تَوصلت إليها البشرية عبر تجاربهاالمريرة وصراعها من أجل تسيير شؤونها بنفسها وتحقيق إرادتها فى الحرية والكرامة والتّنمية الإجتماعية والإقتصادية وكذلك السّيادة والإستقلال بعيدا عن السّلطوية والإستبداد والأنظمة الشّمولية وهيمنة الحزب الواحد...ويمكن إعطاء أوصاف أخرى لهذا النّموذج حسب المراحل التّاريخية و عامل الزّمان والمكان و تَمَايُز الحضارات والثّقافات والأديان ..إلا أنّنا نكتفي بهذه التّوطئة للتّعريف...... وعلى المستوى الوطني ، هل كانت ديمقراطيتنا ثمرة لِنضالات الطّبقة العُمالية والكادحين والأحزاب الإسلامية والقومية والوطنية ، بكل أشكالها وألوانها أَمْ مِنَّة ومِنْحَة من قادة العسكر فينا؟ هل تَوَلّدت بالإقناع أَمْ بالإكراه ؟ هل كانت مكسبا جماهيريا أَمْ إِرْغامًا خارجيًّا وأَجَنْدَة مُستوردة لديمومة الإستئثار بالسلطة ؟ ومن زاوية أخرى ، هل العِبرة فى التّفاصيل أَمْ بالنّتائج؟ مذا يضير المخاض بالوَليد اذا خرج إلى الدّنيا سليما بشحمه ولحمه بعيدا عن رِحم المعاناة؟ لقد عِشنا تداعيات الثّورات العربية وخصوصا ربيعها فى تونس ومصر وسوريا وليبيا واليمن والسودان ..ورأينا ما آلت إليه تلك الهّبات الجماهيرية حيث كان الثّمن المدفوع باهظا ولم تستطع النّخبة السّياسية فى تلك البلدان -على إختلاف أحوالها- تطويع مكاسب الثّورة وظلّت متذبذبة ولقمة سلسة للدّولة العميقة ولم تجد الجُموع المتعطشة إلى الحرية والإنعتاق ،الكَاريزما المطلوبة فى الخارجين الجُدُد وعَازَت السّفينة قبطانا يرسو بها فى بَرِّ الأمان ..!!هذا الحال جعل البعض يستشكل ظاهرة الهّبات الجماهيرية ومدى جدوائيتها فى شعوب منطقتنا وهو طبعا إسقاط له إستثناءات ولا يمكن تعميمه وعلماء السياسة والإجتماع أدرى بذلك....إلا أنّنا عِشناه وجَرّبناه ورَسّخ عند البعض ضرورة الإلتفاف حول العسكر أو البديل المُتاح الذى وجدوا فيه صفة المُنْقِذ والمُخَلِّص وغَدت الإنتفاضة رِدَّة وتهدد سيادة الأوطان ووحدتها وأَمْنَها..!! هذا الإنطباع يصعب تسويقه على الأقل فى الأمم من حولنا التى جَنَت ثمار الإنتقال السَّلِس إلى الديمراطية بعد الثّورة وخصوصا دُوّل أوربا الشّرقية والتى ساهم تفكك الإتحاد السوفيتى والأزمنة الإقتصادية الخانقة والماكينة الإعلامية الغربية ، إلى خروج شعوبها وتحقيق الدّيمقراطية بأقل الخسائر..! لا شكّ أنّ مسارات الثّورة كانت مُشَوَّهة ،وشهدت معوّقات داخلية وخارجية وهو الذى دَفَعَ بعريضة لا بأس بها من الشعب إلى الإلتفاف حول البديل الجاهز -غالبا رموز الدّولة العميقة-المنقذ فى نظرهم من أتون الفوضى،وهي حالة الغريق إِذْ يَنْشُد النّجاة لِكَسْرِ المعاناة،بعكس أصحاب التّضحيات المؤمنين بالمبادئ،يموتون ويغرقون فى سبيل قضاياهم ويستلهمون فى أَحْلَكِ المواقف ،أيقونة النّضال و تَغْدُو الحياة رخيصة وذلك من أجل المستقبل وأجياله...تلك حقيقة لا مِرَاء فيها،الا أنّ سياقات الزمان والمكان تختلف ولن نستطيع التّحكم فى الهبّات الشعبية فى ظلّ تأثير الإمبراطورية الإعلامية الجديدة والمتمثلة فى وسائل التّواصل الإجتماعي ،المُشَيْطِنَة فى أغلبها ،إِذْ لا يغيب على النّابهين ، أنّ ثورات الربيع الأوربي1848م(ربيع الشعوب) والتى أحدثت تغييرات ثقافية وإجتماعية هائلة مع مكاسب سياسية بسيطة ،كانت فى عصر ما قبل الإنترنت وحتى قبل الرّاديو والتلفزيون وكَأنَ الإعلام مِعْوَلُُ ذو حَدَّين!!!!! وبالرّجوع إلى الشأن الوطني ، فإنّ النّضال السّياسي والحِراك الشّعبي،ساهَمَا فى الإسراع بالدّيمقراطية بعدما توالت الإنقلابات العسكرية وأستأثر العساكر بالحُكم عَقِبَ أول حكومة مدنية أطاحوا بها فى إنقلاب يوليو 1978م...الاأنّ البِنَاء الدّيمقراطي المنجز ،بدأ من السّقف ولم يكن مؤسسا على قواعد من الوعي المدني والتّربية الديمقراطية والمسلكيات الحضارية كَنَبْذِ الفساد والرّشوة وإختلاس المال العام والتّزوير...وكانت كل المقاربات التّنموية يَعُوزُها البعد البشري, أو بعبارة أخرى لم تأخذ فى الأولويات ,الإنسان كحجر أساس !!! ثمّ إنّ النّخبة السّياسة لا تمتلك مهارة اللعبة ولم تكن بَيَادِقُها فى مربعات الشّطرنج الحاسمة ،على العكس من نخبة الضّباط التى كانت أكثر تماسكا فى رؤيتها للحكم والديمقراطية ،فَغَدا جُلّ رؤساء الدّولة من قادة المؤسسة العسكرية بإستثناء المدني :سيد محمد ولد الشيخ عبد الله(2007-2008م) رحمة الله عليه .!!! ليس هذا شَيْطَنَة لنخبة الجيش ولا حتى إنتقاصة لنخبتنا السياسية بِقَدرما أنّها مُعَايَرة للنّخبتين(تقدير لمعرفة الحجم والوزن ) !!!! إنّ بعض الجيوش فى العالم دفعوا بإتّجاه تحقيق الديمقراطية (البرازيل-البرتقال-اليونان......) كما نجح بعض الضّباط فى إدارة دَفَّة الحُكم وتحقيق آفاق واسعة من التنمية الإقتصادية كما حدث مؤخرا فى رُوندا بقيادة الضابط السياسي بول كاغامي الخارج من الحرب الأهلية بين قبائل التُّوتسي والهوتو والذى فى عهده كانت دولته من أسرع إقتصادات العالم إِذْ إحتلت المركز السابع من حيث معدلات النّمو كما صُنِّفَت عاصمتها كيجالي كأجمل وأنظف مدينة فى إفريقيا...! إنّ العبرة قد تكون أحيانا فى النّتائج وليست فى التّفاصيل وإنّ الإختلال ليس فى طبيعة الزَّي(عسكري أو مدني) وإنّما فى الإرادة والإستعداد وحجم التّضحيات المُقدمة للأوطان والأمثلة عبر التاريخ كثيرة...! إنّ تَحَقُقَ الديمقراطية بالإنتفاضة أو بالدّبابة ، ليس نهاية النّفق...فكم من حكومات وصلت بالإنتخاب وتحولت بعد حِين إلى ديكتاتورية وشُمولية وسُلطوية كما أنّ الإجبار العسكري قَهَر بعض الأباطرة وتحولت دُوَلهم إلى دُول مؤسسات وديمقراطية عتيدة...إنّ الرّهان والتّحدي الحقيقي ،يكمن فى المحافظة على الديمقراطية وتوسيع مساحتها فى المؤسسات وفى مرافق الحياة والمجتمع بكل حيثياته..ولن يتحقق ذلك إلا بثورة الحوار والتشاور وخلق إعلام حرّ وفصل السّلطات وتقوية وتعزيز الهيئات الرّقابية إلى غيرها من الظّروف التى تضمن إستمرار المكاسب وأخيرًا جَعْل الحُكم لسلطة القانون وقوّته وليس للمدنيين ولا للعسكريين ، إِذْ أنّ القانون فَيْصَل ورهان أصيل فى التّغيير وصَوْن المكتسبات !!!!!!! أَلَمْ تتبدد أحلام الرئيس الأمريكي دونالد تَرَامب فى الحصول على ولاية ثانية ، بقوة القانون كما أنّ القانون كان حاسما فى معركة ملك إبريطانيا تشارلز الأول مع برلمانه وأُزِيح وحُكِم عليه بالإعدام وقُطع رأسه فى 30يناير 1649م.