المفتي البالغ الذروة من حمل الناس على الوسط:
وقد قرأت للإمام الأصولي المحقق أبي إسحاق الشاطبي (ت 790 ه) كلمات نيّرة في الجزء الر ابع من (الموافقات) تحثّ أهل الفتوى على اتباع المنهج الوسط، الذي لا طغيان فيه ولا إخسار. قال رحمه الله:
(المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم مذهب الشدّة، ولا يميل بهم إلى طرف الانحلال.
والدليل على صحة هذا أنه الصراط المستقيم الذي جاءت به الشريعة، فإنه قد مرّ أن مقصد الشارع من المكلف الحمل على التوسط من غير إفراط ولا تفريط، فإذا خرج عن ذلك في المستفتين خرج عن قصد الشارع، ولذلك كان ما خرج عن المذهب الوسط مذموماً عند العلماء الراسخين.
وأيضا، فإن هذا المذهب كان المفهوم من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأكرمين، وقد ردّ عليه الصلاة والسلام التبتّل، وقال لمعاذ لما أطال بالناس في الصلاة: "أفتان أنت يا معاذ"، وقال: "إن منكم منفرين"، وقال: "سدّ دوا، وقاربوا، واغدوا وروحوا وشيء من الدُّ لجة، والقصد القصد تبلغوا"، وقال: "عليكم من العمل ما تطيقون؛ فإن الله لا يملّ حتى تم لوا"، وقال: "أحبّ العمل إلى الله ما دام عليه صاحبه وإن قل"، وردّ عليهم الوصال. وكثير من هذا.
وأيضاً، فإن الخروج إلى الأطراف خارج عن العدل، ولا تقوم به مصلحة الخلق: أمّا في طرف التشديد فإنه مهلكة، وأمّا في طرف الانحلال فكذلك أيضا؛ لأن المستفتي إذا ذُهب به مذهب العنت والحرج بُغّض إليه الدين، وأدّ ى إلى الانقطاع عن سلوك طريق الآخرة. وهو مشاهد. وأمّا إذا ذُ هب به مذهب الانحلال كان مظنّة للمشي مع الهوى والشهوة، والشرع إنما جاء بالنهي عن الهو ى، واتّباع الهوى مهلك.
والأدلة كثيرة.
فعلى هذا يكون الميل إلى الرخص في الفتيا بإطلاق مضاد اً للمشي على التوسط، كما أن الميل إلى التشديد مضاد له أيضاً.