عن أي تضخم نتحدث؟ بقلم / ذ. الطالب أخيار ولد محمد مولود

عن أي تضخم نتحدث؟ عن ذالك الذى يخنق الطبقة الوسطى مع استحالة مقاومته من خلال زيادة الأجور بنسب ضئيلة أو توزيع الإنتاج القومي دون مقابل (revenus de transfert) كلها وسائل لا تشكل في مجملها إلا حيلا تساهم في زيادة الكتلة النقدية دون أن يتناسب ذلك مع أدنى مستوى من مستويات تحسن القدرة الشرائية.

 

والحقيقة أن الإكراه الأول فيما يتعلق بمحاربة التضخم يكمن أساسا في اشكالية التحكم في حجم الكتلة النقدية تحكما يسمح باستقرار الأسعار ويضمن نموا مستديما ويحسن من مستوى التشغيل، والإكراه الثاني الذي لا يقل أهمية عن سابقه يتمثل في عدم حصر حلول هذه المشكلة فى تلك التي توظف العلاجات التقليدية من خلال زيادة النفقات العمومية سعيا إلى خلق فرص العمل مرورا بزيادة المداخيل وانتهاء بتحسين القدرة الشرائية. فهذه الحلول أثبتت جدارتها في السابق اتجاه أزمة 1929 لكن تجاوزها الزمن حيث أصبح التداول النقدي أهم محددات مستوى الأسعار في إطار عولمة الأسواق. ولا يتعلق الأمر كذلك بإتباع الحلول التي تتبناها المؤسسات المالية الدولية التي لا يخفى على أحد ما فيها من السلبيات الاجتماعية والاقتصادية مثل تلك التي عاشتها الدول الإفريقية في التسعينات وحرمتها بحجة "ترشيد النفقات" من أهم الضروريات التي يحتاجها كل بلد كالمدرسة العمومية والمستشفى العمومي والديمقراطية التي كانت تبشر بمستقبل واعد يمكن الإنسان العادي في هذه الربوع من حق المواطنة، محميا بمجرد حيازته لذالك الحق الدستوري من التعريض لاستخدام سيء للسلطة مهما كان مصدره.

 

ومع الأسف لم يكتب لهذه النهضة التحررية أن تصمد أمام الأنظمة الاستثنائية التي انتشرت هنا وهناك وقدمت بموجب صفقات شيطانية مع المؤسسات المالية الدولية شعوبها ضحية، لتتبوأ صفة التلميذ الجيد أو الزبون الوفي لدى هذه المؤسسات التي لا تنشر البساط الأحمر إلا لمن كان من هذه الأنظمة أفضل أداء في تدمير الشعب ثقافيا واقتصاديا.

 

كانت هذه المؤسسات تغمر بالثناء الجميل جلادي المعرفة، هؤلاء الحكام الجدد الذين كانوا يقدمون لنا على أنهم حملة الأصالة الجديدة ورأينا مواكب من الدكتاتوريين الدمويين الذين يرتدون ملابس غريبة ويتشدقون في لغة سخيفة بشعارات "ديمقراطية" تقابل بالتطبيل والتصفيق والحفاوة البالغة من طرف المجموعة الدولية التي لا تعترف إلا بالتسويات المبرمة من خلال هذه المؤسسات حيث تضمن لها سداد ديون صورية تتحول في نهاية الأمر إلى ذمم لا يمكن التخلص منها أبدا وتكون نتيجة ذلك رجوع الشعوب المعنية بهذه الإصلاحات الهيكلية إلى العصر الحجري فيسود بينها الاقتتال وتبادل اللعنات في ظل دول متخلفة و يعم الإفلاس الاقتصادي والاضطرابات الدستورية و الحروب الأهلية وتظهر عصابات المافيا وقوانينها الإجرامية.

 

يكفي أن ننظر حولنا لنتبين أن الدول عكس ما يروج له القانونيون من قدرتها على الوفاء بالالتزامات، يمكن أن تسقط في هاوية الإفلاس وتتحول إلى دول منهارة تكون ملاذا لكبار المجرمين والمليشيات.

 

ولابد أن نعبر عن ارتياحنا في هذا الفضاء الرحب من الجشع وعدم الاكتراث بالآخر لوجود بعض الهيئات مثل منظمة أوكسفام الدولية  (OXFAM.INT) إذ تندد وتقف ضد علاجات "ترشيد النفقات" الذى توصي به المؤسسات الدولية متسارعة في عرض خدماتها ومتذرعة بتقديم المساعدة للدول النامية التي تأثرت اقتصاداتها فعلا بجائحة كوفيد-19 لكن بنسب يمكن التغلب عليها إذا عولجت العلاج الصحيح.

 

عرفت جميع الدول التي خضعت لبرامج الإصلاح الهيكلي زيادة في التعليم الخاص ممولة بدرجة كبيرة تنفيذا لأوامر مؤسسات بريتون ووتس على حساب المدرسة العمومية التي كانت تعلم القيم الجمهورية والمواطنة والمساواة وعدم التراخي في العمل، وفي هذه الفترة أيضا تراجعت الصحة العمومية، ليس فقط من خلال بنية تحتية رديئة ولكن أيضا من خلال ظهور الطب الخاص الذي تتمثل وظيفته الأساسية في تفقير الناس ولأن الفقراء الذين لا يستطيعون ولوجه يذهبون إلى المستشفيات العمومية التي أصبحت ملاذا للمحتضرين.

 

وبناء على ما تقدم فإنه على موريتانيا أن تفكر مليا بحثا عن الطريقة التي يمكن التغلب بها على التضخم وتلجأ إلى الرافعة الاستراتيجية الوحيدة التي يمكن أن تكون مجدية والمتمثلة في التدبير الجيد لمواردنا وما نمتلك من كفاءات، فهذه الرافعة هي وحدها التي سنجد فيها الحل الذي يحفظ القوة الشرائية للسكان دون تعريض أعناقهم من جديد للرجوع إلى المشانق خدمة للتحسين من ميزانية أي واحدة من المؤسسات المالية الدولية. وبطبيعة الحال ينبغي أن نبدأ بتحديد الهدف الذي يتناسب مع هموم وانشغالات الساعة المتمثلة قطعا في التضخم ثم العمل على أن يكون لدينا تصور عن حل أو الحل باعتباره مرتبطا ارتباطا وثيقا بحجم الكتلة النقدية فالإشكالية كلها هى معرفة متى وبأي نسبة يمكن تخفيضها بأنجع وسيلة تضمن في حدود معتبرة تحقيق الأهداف المرسومة كاستقرار الأسعار والنمو والتشغيل. 

 

ومع الأسف لا يمكن معالجة هذا المشكل إلا من الزاوية النقدية نتيجة شمولية الاقتصاد السائر في فلك عولمة مالية تتسارع أكثر فأكثر ويصعب تحديد إلى أي مدى سيصل ذلك.

 

ينخر التضخم جسم المجتمع ويجرد الإنسان من إنسانيته نتيجة تركيزه على غريزة البقاء على قيد الحياة، كما يقسم الثروة تقسيما جائرا ويقلل من شأن العملة الرسمية فتفقد دورها كوسيط في الصرف وذلك لصالح العملات الأجنبية وبإمكانه إرجاع الاقتصاد إلى عصر المقايضة كوسيلة أكثر أمانا للتبادلات.

 

ويحضرنا بهذا الخصوص كلام عامل من دولة بوليفيا أثناء موجة التضخم الكبيرة التي ضربت بلاده في الثمانينات، فقد نسبت إليه مجلة "وال استريت جورنال" في عددها الصادر بتاريخ 13 أغسطس 1985 ما نصه: «لقد أصبحنا ناقصي الرؤية ولا نفكر في المستقبل بل في نفس اليوم الذي نعيش فيه وكم يبلغ سعر صرف عملتنا (البيزو) مقابل الدولار » وفي نفس السياق  يقول مواطن بوليفي آخر : «لم نعد ننتج أي شيء وتحولنا كلنا إلى سماسرة عملات ... ولم يعد الناس يفرقون بين الشر و الخير فنحن الآن مجتمع لا أخلاقي» وتضيف المجلة : «ومن أجل التشبث بالبقاء على قيد الحياة لم يعد أي موظف يصدر أي شكلية إدارية إلا مقابل رشوة ..و العمال من إضراب إلى إضراب ويختلسون أموال المقاولات التي يعملون بها ومسؤولو هذه المقاولات أنفسهم يتحايلون ويبيعون جزء من إنتاجهم أو يقترضون سلفات مزيفة ... يقومون بكل شيء للحصول على الدولارات لأغراض المضاربة ... وفي المناجم التابعة للدول يتقاضى العمال رواتبهم عن طريق اختلاس أنفس معادن المنجم وبيعها لشركات التهريب...وبهذه الطريقة أصبحت بوليفيا التي لا تتوفر على منجم معروف للتصدير تصدر هذا المعدن بمعدل 400 طن سنويا».

 

نعاني كلنا من مشكلة التضخم سواء كنا ليبراليين أو مناضلين سياسيين أو فاعلين في المجتمع المدني. وسعيا مني أنا شخصيا إلى الاطلاع على آراء وتدخلات أطر موريتانيين آخرين وطنيين أو دوليين – وعندنا أطر دوليون وليسوا أقل شأنا من غيرهم – في هذا المجال، أردت أن أقدم مشاركتي هذه المتواضعة محاولة في التعرف أكثر على مشكلة الساعة التي تشكل مصدرا رئيسيا للاضطرابات السياسية والتي يصفها كينز(Keynes) الاقتصادي البريطاني الحائز على جائزة نوبل، يصفها «بالنظام» الذي «يفقر كثيرا من الناس» على حساب مجموعة قليلة من الأشخاص الذين "لا يلحق ثراؤهم الضرر بالأمن العمومي فحسب  ولكن يلحقه أيضا بالثقة التي كانت عندنا في التوزيع العادل للثروة الحالية » هذا النظام الذي «تصبح فيه أساليب الثراء ضروبا من ألعاب الحظ و اليانصيب»  (كتاب ج.م كينز: «الانعكاسات الاقتصادية للسلم» ص.119)