التفكير السياسي ـ وكل تفكير ـ هو «حكم على واقع»، والذي يميّز التفكير السياسي عن غيره من أنواع التفكير هو أن هذا الواقع يتعلق برعاية شؤون الناس، وذلك واضح من تعريف مصطلح السياسة ومن معنى كلمة ساس (ساس الإبل: رعاها)، وأن هذا الحكم لا بد أن يتم حسب مبدأ معين (سبق غرسه وترسيخه في النفس). إذن فالتفكير السياسي هو «حكم حسب مبدأ معين على واقع يتعلق برعاية شؤون الناس». وعليه فلا يصح أن يتصدر الإنسان منابر التفكير السياسي قبل أن يحدد مبدأه في الحياة ويهضمه هضماً صحيحاً، حتى يتسنى له الحكم بأفكاره (لا غيره) على وقائع السياسة.
وهذا التعريف يوضح ارتباط الواقعية بالمبدئية في التفكير السياسي. فالتفكير السياسي يبدأ بالواقع ويرتقى إلى المبدأ، أي هو واقعي من جهة أنه ليس بحثاً في خيال أو حالات مفروضة، ومبدئي من جهة أنه معالجة هذه الحالات الواقعية حسب مبدأ معين. لذلك فلا يصح أن يقال إن التفكير السياسي وهو تفكير واقعي (وفقط) بل هو واقعي ـ مبدئي. وكذلك أيضاً لا يصح أن يقال للسياسي «كن موضوعياً (وفقط)» بل «كن موضوعياً ـ ذاتياً»، موضوعياً بأن تحلل الواقع المبحوث تحليلاً صحيحاً دون تأثير المبدأ على عملية نقل الواقع إلى الدماغ (العنصر غير الذاتي) ثم ذاتياً بتناول هذا الواقع المنقول بالبحث والحكم عليه حسب النصوص العامة للمبدأ الذي يعتنقه السياسي.
وبدون الوعي الصحيح لمفهوم التفكير السياسي يبقى السياسي سطحياً ضعيفاً. إذ أن قوة السياسي وعمقه تتحدد في مقدرته على الجمع بين عنصري الموضوعية والذاتية (أو الواقعية والمبدئية). وشأنه في ذلك شأن الطبيب الماهر الذي يعالج المرض. لا بد وأن يبدأ بتشخيص الداء تشخيصاً دقيقاً (نقل الواقع إلى الدماغ) ثم يعمل الدماغ في البحث عن علاج لهذا الداء من خلال الربط بين هذا الواقع (المرض) وبين الحالات التي تعلمها الطبيب، للخروج بدواء شافٍ (الخروج بحكم معين).
وباختصار فالسياسي القوي والعميق لا بد وأن ينطلق من الموضوعية في فهم الواقع وينتهي إلى الذاتية في معالجته حسب نصوص المبدأ. أما أن يبقى السياسي يدور في الواقعية وحدها أو المبدئية وحدها فهذا ضعف ومضيعة للجهود. ولتوضيح هذه الكفرة نضرب المثال التالي: عندما يبحث السياسي المسلم في موضوع إعلان دولة ما أنها تطبق الإسلام لا يجوز له أن يقفز مباشرةً إلى تأييد هذه الدولة لمجرد الإعلان ولأن مبدأه يطالب بإقامة دولة إسلامية، بل لا بد قبل ذلك أن يبحث واقع هذه الدولة المعلنة بموضوعية دقيقة دون التأثر بمن هو في سُدّة الحكم. ثم يقارن الواقع الملموس بالنظام السياسي المدروس ويخرج بنتيجة حول هذه الدولة بغض النظر عن موافقة هذه النتيجة للأمر الواقع أولاً.
وأنه لمن الأهمية بمكان توضيح التشابه العميق بين تعريف التفكير السياسي والفقه الشرعي الذي سَبَِقَنا لتعريفه علماءُ الأصول الأوائل، إذ قالوا إن الفقه هو «استنباط الأحكام العملية من أدلتها التفصيلية».وبمعنى آخر يمكن أن يقال إن الفقه هو استنباط المعالجات (المبدئية الإسلامية) لواقع عملي معين. أي أن هنالك واقعاً وهنالك نصوص الكتاب والسنة، والفقه هو ربط هذين الأمر والخروج بحكم معين (حكم شرعي). وهذا لا يدع مجالاً للشك أن السياسة باب من أبواب الفقه الكثيرة وأن التفكير السياسي هو تفكير شرعي تنطبق عليه القاعدة الأصولية: «الأصل بالأفعال التقيد بالحكم الشرعي».
إلا أن التجروء على الأحكام الشرعية عامة جعل بعض المفكرين «المفكرين» الذي يُنسَبون أحياناً إلى الإسلام يتجاوزون حدود هذا الفهم (بحسن نية أو سوئها) وينطلقون بدعوى الواقعية أو الموضوعية، مما أدى إلى بروز داء حصر التفكير السياسي بالواقعية وحدها. ثم تشعبت أعراض هذا الداء، فزادت من انحطاط الأمة الإسلامية. ولذلك فالعمل على إنهاض هذه الأمة وإيقاظها من سباتها يتطلب الوعي الكامل لهذا الداء وأعراضه حتى يتسنى معالجته والقضاء عليه. ونذكر فيما يلي بعض هذه الأعراض:
1- استنباط حلول القضايا من واقع القضايا نفسها دون الرجوع إلى المبدأ (الإسلام). مثل اعتبار حل قضية فلسطين هو المفاوضات التي أصبحت جزءاً من الواقع، دون الرجوع إلى نصوص القرآن التي تحرم مثل هذه المفاوضات.
2- تعريف السياسة على أنها فن الممكن. مما أدى إلى تجاهل الحل الإسلام إذا استُصعِب العمل لتحقيقه بدعوى أنه غير ممكن. مثل رفض الخلافة الإسلامية لأنها صعبة التحقيق!
3- التدرج في تطبيق الحل المبدئي واستنباط مراحله من الواقع، مثل اجتماع الكفر والإسلام (!) في سدة الحكم تمشياً مع الأمر الواقع. وهذا يعود على عملية إنهاض الأمة بسلبيتين هما:
المرور بحالات غير مبدئية يحرم العمل بها لأنها مخالفة للشرع مثل أن يصبح الداعية المسلم وزيراً عند سلطان كافر!
تمييع الحل الإسلامي وعدم وضوح الصورة التي يُقصد الوصول إليها بسبب امتزاج الجاهلية بالإسلام في أدبيات الدعوة وفي رسم الطريق إلى الهدف. مثل المطالبة بالديمقراطية من أجل الوصول إلى الخلافة، فتختلط الديمقراطية بالخلافة في أذهان الأمة، فلا تميّز الكفر من الإسلام في النظام السياسي.
4- تمرير الكفر للأمة على أنه إسلام. مثل فتاوى علماء السلاطين التي تتكرر في المناسبات السياسية لتبرير أعمال الساسة غير المبدئية. مثل الفتوى بجواز الصلح مع اليهود عندما قام به الخائن السادات. أو مثل فتوى هيئة كبار العلماء في السعودية على أن نظام الحكم هناك يُطبق الشريعة الإسلامية (!؟). وجواز الصلح مع اليهود.
5- حصر التفكير في التغيير في القضية الإقليمية لكل أهل بقعة من الأرض. مثل حصر تفكير مسلمي فلسطين أو كشمير في قضية فلسطين أو كشمير وحدها دون البحث في القضية المصيرية الأولى للأمة الإسلامية وهي عودة الإسلام إلى واقع الحياة، ووحدة الأمة جميعها تحت راية إمام واحد.
6- الانجرار إلى مخططات الغرب الرأسمالي الذي ينجح في خلق قضايا إقليمية متجددة لاستنفاد طاقة الأمة ولإضاعة الجهود المخلصة في ركوب الموجة التي يحركها الغرب لمصالحه. وخير مثال على ذلك بروز قضية البوسنة مباشرة بعد انتهاء قضية أفغانستان!
هذه بعض أعراض الداء ولم أُحْصِها كلّها. والعلاج الوحيد لهذا الداء هو انتهاج التفكير الشرعي في معالجة المسائل السياسية جميعها، واتخاذ الأعمال السياسية على أنها أحكام شرعية يقصد منها نيل رضوان الله سبحانه وتعالى ليس غير. وفهم السياسة على أنها باب من أبواب الفقه الذي يتطلب تحرّي النصوص والأدلة الشرعية قبل مباشرة العمل السياسي المعين، متى نتعبد الله بالعمل السياسي على الوجه الذي يريده الله سبحانه لا على الوجه الذي يفرضه الواقع أو الذي تهواه العقول: (أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ)؟!
ولقد آن الأوان للأمة أن تعي الفرق بين الاحتكام للشرع والاحتكام للواقع أو العقل، وأن تفقه ما وعاه سلفنا من أمثال ابن خلدون ـ رحمه الله ـ إذ يقول في المقدمة: «فإذا كانت هذه القوانين مفروضة من العقلاء وأكابر الدولة وبصائرها كانت سياسة عقلية، وإذا كانت مفروضة من الله سبحانه وتعالى بشارع يقررها ويشرعها كانت سياسية دينية نافعة في الحياة الدنيا والآخر»