تعيش البنوك التونسية أزمة كبيرة، بعدما أصبح مؤكداً أن الدولة عاجزة عن تسديد الديون التي حصلت عليها من هذه البنوك، وذلك بسبب اندلاع الحرب الروسية- الأوكرانية وما تبعها من ارتفاع في أسعار الطاقة وبعض المواد الأساسية.
فمنذ عام 2016، تاريخ تنفيذ أول إصلاحات صندوق النقد الدولي، تم تعديل قانون البنك المركزي التونسي فأصبح ممنوعاً من إقراض الدولة أو تمويل مشاريعها من الخزينة العامة.
بعدها أصبحت البنوك التونسية التجارية هي فقط من تلجأ لهم الدولة في حال أرادت تعبئة موارد ماليّة من الداخل، هذه البنوك التي رفضت بعد 25 يوليو/تموز 2021 منح قروض طويلة المدى للدولة.
ووفق الأرقام الرسمية، رغم حالة التشكيك التي تلازم كل الأرقام المتعلقة بالقروض والهبات، فتبلغ قائمة قروض الدولة لدى البنوك المحلية حوالي 6 مليارات دولار، وهو مستوى تداين قياسي من البنوك المحلية لم تبلغه الدولة سابقاً.
مكاسب كبيرة، ولكن
تحسين مردودية البنوك التونسية وارتفاع أرباحها في السداسي الأول من عام 2021 يُخفي العديد من المخاطر المحتملة التي يمكن أن تواجهها المؤسسات المالية في تونس، في تقدير وكالة التصنيف "فيتش رايتنغ".
وأكد تقرير أصدرته "فيتش رايتنغ" في منتصف نيسان/أبريل 2022 أن انتعاشة القطاع المصرفي في تونس يمكن أن تتأثر بهشاشة الوضع السياسي للبلاد، ونهاية العمل بإجراء تأجيل أقساط القروض.
ويشير تقرير الوكالة إلى أن الناتج الصافي الإجمالي الذي سجلته البنوك العشر الكبرى في تونس ارتفع بنسبة 37% بحساب الانزلاق السنوي خلال السداسي الأول من عام 2021 مقارنة بنفس الفترة من العام المنقضية.
كما تحسَّن معدل مردود الأموال الذاتية لهذه البنوك ليصل إلى 11٪، كما استقرّ هامش الفائدة الصافي في حدود 3.8٪ وهي نفس النسبة خلال عام 2020.
وتشمل خارطة البنوك والمؤسّسات الماليّة في تونس إلى حدود عام 2020، على 23 بنكاً مقيماً، و7 بنوك غير مقيمة، و8 مؤسّسات إيجار مالي، وبنكي أعمال، ومؤسّستين مختصّتين في خدمة إدارة الدّيون.
وقالت "فيتش رايتنغ" إن مخاطر سداد القروض ما زالت تهيمن على القطاع المصرفي في تونس، ومستوى نشاط الاستغلال للبنوك التونسية سلبي، يعكس مخاطر مرتبطة بهشاشة الاقتصاد التونسي، كما أن جودة أصول البنوك التونسية تدل على أن قروضها ستتراجع.
وشككت الوكالة في قدرة البنوك التونسية على تحقيق نفس الأرباح التي كانت تحقّقها قبل أزمة كورونا، في ظلّ تفاقم مخاطر عدم استخلاص القروض والديون التي تمثّل تهديداً لوجود بعض البنوك.
كما بيَّنت وكالة التصنيف الائتماني في تقريرها الحديث أن نسبة القروض المتعثّرة للبنوك العشرة الكبرى في تونس قُدرت بحوالي 11٪، وذلك بعد انتهاء السداسي الأول من عام 2021.
وفي مقابل تلك القروض المصنّفة والمشكوك في استخلاصها لا تغطّي المدخرات سوى نسبة 72٪ من القروض المصنّفة، مرجحة أن يكون حجم الأموال الذاتية للبنوك غير كافٍ لتغطية مخاطر استخلاص القروض؛ مما سيخلق أزمة حادة، وهو سيناريو لم تستبعده وكالة التصنيف الائتماني المعروفة.
ما علاقة حرب روسيا أوكرانيا بالبنوك التونسية؟
لن تقتصر التأثيرات السلبية للحرب الروسية- الأوكرانية على الدولة التونسيّة، التي تورّد أكبر نسبة من حاجياتها من الحبوب من البلدين، فالتداعيات السلبية لتلك الحرب البعيدة جغرافياً عن تونس شملت المؤسسات المالية والبنوك المحلية.
ورغم أنه لا صلة مباشرة للبنوك التونسية بروسيا وأوكرانيا، وليس لها أي معاملات مالية ونقدية مع مؤسسات أو شركات فيهما، فإنها ستتأثر بشكل غير مباشر، يمكن أن يوقفها على حافة الإفلاس.
تقرير حديث لوكالة التصنيف الأمريكية "فيتش رايتنغ" قال إن البنوك التونسية هي الأكثر عرضة في إفريقيا للتأثر بالحرب الروسية- الأوكرانية في إفريقيا، شأنها شأن البلاد ككلّ، والتي خفضت "فيتش" تصنيفها السيادي، مرتبة "B-" إلى "CCC" مع آفاق سلبية.
ويعكس تصنيف تونس في "CCC" مع آفاق سلبية مخاطر السيولة المالية والخارجية المتزايدة في سياق المزيد من التأخير في الاتفاق على برنامج جديد مع صندوق النقد الدولي والإفراج عن بقية أقساط القرض الذي وافق على منحه لتونس.
كما أوردت الوكالة، في تقريرها، أن الحكومة ستُضطرّ للاقتراض بكثافة من البنوك التونسية المحلية، في ظل ارتفاع أسعار السلع العالمية؛ مما سيؤدّي إلى ارتفاع التضخم، الذي توقّعت معدل استقرارها في حدود 8٪ العام الجاري 2022.
تأثر البنوك التونسية بالحرب بين روسيا وأوكرانيا سيكون بصفة غير مباشرة، وفق ما أوضحه المحلل والخبير الاقتصادي والمالي جمال الدين عويديدي لـ"عربي بوست"، بسبب ارتفاع أسعار الطاقة والمواد الغذائية، الذي سينعكس سلباً على أغلب القطاعات الرئيسية في الاقتصاد التونسي؛ مما سيؤدي إلى التأخير في سداد الديون الحكومية بدرجة أولى والقروض التي أُسندت للشركات الخاصة كذلك.
وأشار الخبير المالي إلى التقرير الصادر عن وكالة التصنيف "فيتش"، الذي توقّعت من خلاله أن ترتفع نسبة القروض المتعثرة، أي التي لا تُسدّد في موعدها، في القطاع البنكي إلى حوالي 14٪ مع نهاية العام الجاري مقابل 13.6 خلال نهاية عام 2020.
كما توقعت "فيتش" أن يستمر العجز في ميزانية تونس في حدود 8.5% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2022، مقارنة بنسبة 7.8% عام 2021، فيما رجّحت أن يرتفع حجم الدين العام إلى 84% من الناتج المحلي الإجمالي في 2022، ويصل في 2023 إلى حوالي 84.7%.
هذا وقد تبعت اندلاع الحرب الروسية- الأوكرانية ترفيع الحكومة في أسعار الوقود، وهو توجه ستعتمده الحكومة شهرياً بالترفيع في أسعار المحروقات بنسبة 3% إلى نهاية العام الجارية.
الاتفاق مع صندوق النقد الدولي
تسعى تونس لإقناع صندوق النقد الدولي بالتزامها ببرنامج إصلاحات هيكلية، وذلك لإمضاء اتفاق بقرضٍ ضخمٍ لتونس يبلغ 4 مليارات دولار، والذي لا بديل لتونس عنه في ظل ما تشهده الخزينة العامة من عجز كبير وما يعيشه اقتصاد البلاد من ركود.
وفي مقابل القرض بـ4 مليارات دولار، يشترط "النقد الدولي" إصلاحات عميقة تلتزم بتنفيذها الحكومة التونسية، وهي أساساً تخلّي الدولة عن دعم الطاقة والمواد الغذائية الأساسية كالخبز والزيت النباتي والسكر.
أيضاً يطالب البنك الدولي بتسريح الآلاف من موظفي الحكومة للضغط على كتلة الأجور المرتفعة، وإصلاح الصناديق الاجتماعية المفلسة تقريباً، والترفيع في سنّ التقاعد، وخصخصة المؤسسات والشركات المملوكة للدولة، والتي يعتبرها صندوق النقد الدولي عبئاً على الخزينة العامة.
لكن يصطدم الاتفاق بين صندوق النقد الدولي والحكومة التونسية بشرط آخر من المؤسسة المالية المانحة، يتمثل في موافقة طرفي الإنتاج، أي الاتحاد العام التونسي للشغل واتحاد الصناعة والتجارة والصناعات التقليدية المعروف باسم اتحاد الأعراف في تونس.
وكان الاتحاد العام التونسي للشغل قد أعلن رفضه للعديد من الإصلاحات التي ستلتزم بها السلطات التونسية، ويعتبر أن إصلاح البلاد يجب ألا يكون مفروضاً من الخارج.
كما لا تُخفي المؤسسات المالية المانحة، وعلى رأسها صندوق النقد الدولي، خشيتها من عدم إيفاء الحكومة التونسية بالتزاماتها ووعودها بتنفيذ حزمة الإصلاحات، كما كان الحال مع اتفاق القرض السابق الذي انطلق صندوق النقد الدولي في صرف الأقساط عام 2016.
حيث وافق الصندوق على منح تونس قرضاً ميسّراً تبلغ قيمته 2.9 مليار دولار على مدى 4 سنوات، لكن تم صرف 1.6 مليار فقط، وتم حجب المبلغ المتبقي بسبب عدم التزام الحكومة بتنفيذ حزمة الإصلاحات والإجراءات التي نصت عليها الاتفاقية الموقّعة مع صندوق النقد الدولي.
الرئيس التونسي قيس سعيّد صرح في وقت سابق "بأن الحكومة لا تملك بديلاً عن التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد للحصول على تمويلات للميزانية"، بعد أن هاجم قبل ذلك وكالات التصنيف العالمية بسبب إصدارها لتقارير تُشكك في قدرة تونس على سداد ديونها.
وقد أعلن سعيّد عن إجراءات استثنائية في 25 تموز/يوليو، أقال على إثرها الحكومة، مما أدى إلى تعليق المفاوضات مع صندوق النقد الدولي لأشهر، ووقع استئنافها في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي بعد تعيين حكومة جديدة.
عربي بوست