أثقلت العقود السبعة كاهل هذا الشيخ المسن، وسرى المرض في جسده المرهق، لم يعد قويا كما كان قبل خمسة عقود، وهو شاب عشريني يصارع الحياة، بل لم يعد قويا كما كان قبل سنوات قليلة عندما ألجأته الظروف إلى العمل على عربة حمار، يدفعه بقبضته المتراخية ليعبر حاملا برميل ماء، يتجول به في شوارع رملية ومتداخلة في حي الترحيل، المحضن الأكبر للفقراء الموريتانيين في عاصمتهم نواكشوط.
لم يعد شيئ من ذلك متاحا، فالجسم أصبح أوهن مما كان، بعد أن دبت فيه أمراض متعددة، وأصبح الشيخ مرغما على لزوم الفراش، والبحث عن مصدر جديد لشراء أدويته المتعددة، أما يوميات الحياة وتكاليفها فقد أصبحت أكثر صعوبة من ذي قبل
يستند الشيخ على سيدة أربعينية هي أم بنيه الصغار الذين لم يتجاوز أكبرهم حاجز 12 سنة، إنهم صغار جدا بمعيار الفاقة والحاجة إلى كاهل يشد عضد والدهم المثخن بالألم والمرض والفقر.
لا تخفي والدة الأطفال حاجتهم الماسة إلى العون، خصوصا بعد أن أقعد المرض والدهم عن التكسب، أما زوجها فيصر دائما على أنه في نعمة كبيرة من الله
"يرسل الله لنا نعمه دائما، يرزقنا من حيث لا نحتسب، بعض الجيران يتعهدنا بعونه، ونحن نحمد الله على كل حال"
عانت السيدة من فقر وضيق ذات يد خلال شهر رمضان، تتذكر أنها لا تملك في بيتها ما تفطر به، سوى جرعات من الماء، يذكرها زوجها بأن بعض جيرانها يرسلون إليها بعض الإفطارات، لكنها ترد بوضوح " ولكن هل في بيتنا ما يمكن أن نعد به إفطارا لأنفسنا"
أم البنين الصغار هي الصائم الوحيد في البيت، فزوجها أرهقه المرض، ولم تعد به مسكة للصيام، أما بنوها الصغار، فينظرون بعيون أدبها الصبر، إلى أفق ضيق، فقد قلص الفقر من دائرة طموحهم، فلذلك يفرحون بشكل غريب بمساعدة قليلة مما يترفع عنه كثير من الأثرياء والمنعمين، لكنه يمثل كنزا في عالم الفقراء
في محضن الفقر
قبل سنوات استطاع الشيخ الحصول على كزرة صغيرة في حي الترحيل، كانت الحفر والكثبان تحيط بها من كل جانب، غرس فيها شجرة، وبنى بعد جهد جهيد غرفة من اللبن والاسمنت، دون أي صباغة ولا زخرفة، بل دون حائط يحمي الأسرة الصغيرة، أقام رفقة زوجته وأبنائه، يدرس أحد هؤلاء القرآن الكريم في محظرة قريبة من منزل أهله.
وقد احتاط الشيخ لأسرته" لقد قمت بتسجيل هذه القطعة التي نملك باسم زوجتي، لكي تبقى لها ولهؤلاء الصبية، فأنا شيخ مسن، ولا أعرف متى أغادر هذا العالم، وأريد أن يبقى لهم ما ينفعهم من بعدي
"
يتحدث الشيخ عن مأساته في غلاف من الصبر والتخفيف والتأكيد على أنه ليس متبرما من وضعيته، بل هو قانع جدا، يحمد الله على حاله، ويشكر من يقدمونه له إحسانا، ويؤكد استحالة أن يمد يده متسولا، وبشيئ من العتب يعرف أن له أقارب متعددين منهم أثرياء أهل مال" أنا لم أتقدم إليهم متسولا، وطبعا من لا يرى الشمس لا فائدة من وصفها له أو توجيه نظره إليها"
ليست هذه الأسرة المتعففة الوحيدة في العاصمة نواكشوط، فهنالك آلاف الأسر الغارقة في وحل الإدقاع والبؤس، لكنها أيضا مستغرقة بقوة في تكرار الحمد لله، والاستتار خلف غلالة رقيقة من التعفف الذي يقاوم يد البؤس العسراء