كتب الدكتور سيدي عبد القادر
كان هذا المنشور قبل نحو سنتين ونصف عندما أحدث قانون ينظم السير فوضى عارمة وانفلاتا أمنيا كبيرا فأعدت نشره بمناسبة الحادث الأخير البشع
من أراد أن يطاع فليأمر بالمستطاع:
إنما حدث في اليومين الماضيين من انفلات أمني وفوضى عارمة درس واضح للجميع ، مفاده أن كثيرا من المسؤولين لايقدرون المسؤولية والأمانة التي حملوها ، ولا ينظرون في عواقب ما يقدمون عليه من قرارات مصيرية خطيرة ، فتتسم بالارتجال وعدم التأني والتؤدة فيما يقدمون عليه ، كما تتسم باحتقار المواطن وتجاهله وعدم تشريكه فيما يمس مصالحه وشؤون حياته .
ومفاده أيضا أن كثيرا من المواطنين غير وطنيين وغير واعين أن المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة ، وأن تطبيق القانون لمصلحة الجميع .
لا شك أن المرور عندنا يتسم بالفوضى والتسيب من السائقين والقائمين على التنظيم بشكل مثير للاشمئزاز، ويعطى صورة غير مشرفة للبلد تدل على تخلف وانحطاط فى المدنية.
ولكن المعالجة الناجعة في أي مشكلة لابد فيها من التدرج وتشريك المستهدف بها حتى يكون مدافعا عنها لا دافعا لها ، ولا بد فيها من مراعاة أحوال الناس وظروفهم الاجتماعية والاقتصادية .
هذه القوانين المثيرة كان بالإمكان أن تمر بهدوء وسلامة لوأحسن عرضها على الناس وإخراجها في صورة المصلحة والتنظيم لا في صورة الضريبة والتعجيز ( اشرب ذا ول انرشمك):
هي نوعان :
نوع يتعلق بتصرف السائق ومخالفاته المعيقة للسير أو المميتة وهو الأكثر كالهاتف والحزام والتوقف والاجتياز الممنوعين ، فهذا النوع لا بد من تطبيقه ولا يمكن التنازل عنه ولا حجة لأحد في معارضته ؛ إذ لا مرور بدونه ولا يترتب عليه تكلفة مالية .
إنه نظام للسير فقط يقدر عليه الغني والفقير، وتطبيقه لا يحتاج إلى إعلان ، بل يطبقه القائمون على تنظيم المرور بصمت وهدوء حتى يحترمه الجميع بلا إعلان ولا ضجيج باعتباره قانونا قديما عالميا يجب على كل سائق أن يحترمه كاملا غير منقوص أو يعود إلى باديته وجمله أو حماره .
ونوع يتعلق بالسيارة ووضعيتها ، فهذا هو الذي يحتاج إلى التروي والنظر في الحلول المناسبة؛ لأن أكثر المركبات عندنا غير صالحة للاستخدام بالمعايير الدولية المحترمة وأصحابها غير قادرين في الغالب على إصلاح وضعيتها أو استبدالها ، ولا وسيلة عندهم للعيش سواها .
فإن كانت الدولة قادرة على مراكب لهؤلاء تتوافر فيها المعايير على جهة القرض ، فهذا هو الحل المناسب لدولة تقوم بمسؤوليتها وتحترم مواطنيها ، وهو الحل أيضا في المسكن والشغل والقضاء على الجرائم المالية.
وإن كانت الدولة عاجزة عن هذا النوع من الحلول ولم تصل بعد إلى التفكير فيه فضلا عن القيام به ، فلتترك الأمر على ما هو عليه ولتعلم أن هذه السيارات المتهالكة التي هي نفايات دول أخرى لا تقل خطورة عن الأدوية والأغذية الفاسدة التي تفتك بالمواطن صباح مساء على مرأى ومسمع من الجميع موالاة ومعارضة حكاما ومحكومين ، ولاتقل خطورة ولا قبحا أيضا عن الحمير التي تزاحم السيارات في كل نقطة ، فما هي معايير السلامة في الحمير وما هي قوانين المرور المتبعة فيها .
وهل القائمون على تنظيم المرور مهيؤون لتطبيق قوانينه على الجميع بنزاهة وموضوعية؟؟
إن تصرفات الكثيرين منهم لا تدل على ذلك .
وهل السائقون أنفسهم مهيؤون أيضا لقبول القوانين وتطبيقها عليهم؟ وما المعايير المطلوبة قانونا في المواطن حتى يكون سائقا غير رخصة السياقة؟ هل تشترط فيه معايير أخلاقية مثل الأمانة والخلو من السوابق مثلا .
من العجيب جدا أن توضع معايير للسيارة الصالحة للاستخدام وهي آلة ولا توضع معايير للمستخدم وهو إنسان بإمكانه أن يستخدم تلك الآلة في أكبر الجرائم من القتل والخطف للأشخاص والأمتعة مثلا ، لاسيما إن كان سائق أجرة يحمل الصغير والشيخ الكبير والمرأة والضعيف والضيف على البلد ومن يسهل التغرير به ، فينبغي أن يكون مواطنا أمينا لا أجنبيا يمكنه الهرب بعد الجناية، ولا مواطنا لم تثبت عدالته !!
لا أجد علة لهذا غير الإعلاء من قيمة العنصر المادي وإكرامه والحط من قيمة العنصر البشري وإهانته، وتلك قاصمة لا تقوم معها للأمة قائمة .
المرور كغيره يحتاج إلى تطبيق قوانينه القائمة واحترامها وتطبيقها على الجميع كاملة قبل إحداث قوانين جديدة .
ولا بد قبل ذلك وبعده من الصدق في كل قول وفعل حتى توجد الثقة كل الثقة بين الجميع ، وحينئذ يستعد الجميع للتطبيق طوعا لاكرها .
عندما فتح المسلمون فارس في خلافة عمر- رضي الله عنه- بقيادة سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - بعث الفاتحون بكنوز كسرى من الذهب والجواهر وفيها تاج كسرى وسواراه ، ووضع ذلك بين يدي عمر، جعل يحركه بعود ويقول: "إن قوما بعثوا بهذا لأمناء" ، فقال له علي- رضي الله عنه - : "عففت يا أمير المؤمنين فعفت رعيتك ، ولو رتعت لرتعوا".
كان الذين بعثوا بالكنوز من فارس يعلمون يقينا أن عمر لن يستأثر بها دونهم ، وأن كل مسلم يصله حقه منها لا محالة لثقتهم بعمر فالثقة أساس التعامل بين الجميع .
عند ما تطبق القوانين على الجميع ويشعر الجميع أنهم متساوون في الحقوق والواجبات ينسجمون جميعا ويقولون سمعنا وأطعنا جميعا .
اللهم ألف بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا واهدنا سبل السلام.