كتب المربي الفاضل فؤاد علوان تعليقا على تكريم جمعية البركة للطالب المعاق سيدي محمد بن محمد الأمين:
إنَّ التَّشبُّهَ بالرجالِ فلاحُ
من الناس من ابتلاه الله بإعاقة حركية، ومنهم من ابتلاه بإعاقة بصرية، ومنهم من ابتلاه بإعاقة سمعية، ومنهم من ابتُلِيَ بإعاقة ذهنية، ومن الناس من يكون بلاؤه مُركَّبًا، فيُبتَلَى بأكثر من إعاقة في وقت واحد.
ولكن أشد الناس إعاقة من ابْتُلِيَ بإعاقة نفسية، فتراه ميتًا وهو حيّ، يعيش ويتحرك حركة المعاقين رغم أنه ليس كذلك.
ولقد حَكَى التاريخُ قصصَ نماذج ابتُلِيَتْ ببعض الإعاقات، ولكنها عاشت كأنها بغير إعاقة. فهذا الصحابي الجليل عبد الله بن أم مكتوم الأعمى -كما ورد في سورة (عبس)- يحضر نزول قول الله -تعالى-: (لا يَسْتَوِى ٱلْقَٰعِدُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُجَٰهِدُونَ..) الآية (95) من سورة النساء، فعن زيد بن ثابت- رضي الله عنه- قال: كنت إلى جانب النبي-صلى الله عليه وسلم- فغشيته السكينة (وكانت هذه علامة نزول الوحي)، فوقعت فَخِذُهُ على فَخِذِي، فما وجدتُ شيئًا أثقل منها، ثم سُرِّيَ عنه، فقال لي: اكتب، فكتبتُ في كتف: (لا يَسْتَوِى ٱلْقَٰعِدُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُجَٰهِدُونَ..)، فقام ابن أم مكتوم، فقال: فكيف بمن لا يستطيع؟ (يعني أنه أعمى لا يستطيع الجهاد، وهناك أمثاله من أصحاب الأعذار)، يقول زيد: فما انقضى كلامه حتى غشيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- السكينة (أي عاوده الوحي)، ثم سُرِّيَ عنه، فقال: اكتب: (غيرُأوْلِي الضَّرر)، قال زيد: أنزلها الله وحدها، فكأني أنظر إلى ملحقها عند صدع الكتف (أي ينظر إلى موضعها في الكتف الذي كان يكتب فيه).
أرأيت أخي الحبيب إلى هذا الصحابي المُعاق؟ أرأيت كيف كانت صدمته عندما نزلت الآية فلم يجد نفسه ضمن تصنيفها؟ أرأيت كيف فُجِعَ، فقام يطالب بحقه، ويقول: كيف بمن لا يستطيع؟
ثم أرأيت كيف صدق الله فصدقه الله؟ أرأيت كيف جاء الرد سريعًا، والاستجابة سريعةً؟ .. تخيَّل معي أخي الحبيب هذا المشهد، نزل جبريل ومعه الآية الكريمة إلى رسول الله-صلى الله عليه وسلم-خاليةً من ثلاث كلمات (غير أولي الضرر)، وكتبها زيد بن ثابت، فلما تدخَّل عبد الله بن أم مكتوم يسأل عن موقعه منها عاود جبريل النزول على النبي- صلى الله عليه وسلم- في وحي جديد بثلاث كلمات فقط، وأمره أن يضعها ضمن الآية بعد كلمة (المؤمنين)، لتصبح الآية: (لا يَسْتَوِى ٱلْقَٰعِدُونَ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِى ٱلضَّرَرِ وَٱلْمُجَٰهِدُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَٰلِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ..) الآية.
سبحان الله.. أي علاقة هذه التي ربطت بين هؤلاء القوم وربهم؟ وأي صدق هذا الذي أهَّلَهُمْ لهذه المنزلة؟ وأي عزيمة تلك التي امتلأت بها قلوبُهم؟
لقد حصل هذا الصحابي على رخصة من ربه في مشهد مهيب عجيب، ولكن الأعجب من ذلك أن هذا الأعمى الذي حُقَّ له أن يفرح بهذه الرخصة، وأن يرجع إلى بيته، فيقبع فيه مستريح البال، وقد تخلص مما قد يعتريه من حرج الصدر ووخز الضمير.
الأعجب من ذلك أنه بعد حصولِهِ على هذه الرخصة عزم على ألَّا يتخلفَ عن معركة بعد اليوم، واستجمع قوته، واختار لنفسه الدور المناسب، فكان يقول: ادفعوا إليَّ اللواء (أي الراية) فإني أعمى لا أستطيع أن أفِرَّ، وأقيموني بين الصَّفَّيْن.
يا إلهي!! بالله عليكم هل هذا إنسان مُعاق؟!.. يطلب حمل الراية لأنه أعمى لن يرى شيئًا أثناء المعركة، وبالتالي هناك ضمان بعدم الفرار؛ لأنه لن يتأثر بأي شيء، ولن يتأثر بأي مشهد.
أمَّا الصحابيُّ الجليل عمرو بنُ الجموح، الذي قال يوم أحد: إني لأرجو أن أطأ بعرْجَتِي هذه في الجنة، فصدقه الله- تعالى- فقاتل حتى قُتِل، فمرَّ عليه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعد المعركة، فقال: (كأني أنظر إليك تمشي بِرِجْلِكَ هذه صحيحةً في الجنة)، هل كان هذا إنسانًا مُعاقًا؟
وإن كان هؤلاء صحابة رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وقد كان لهم من الفضل والمنزلة ما كان، فهل كان الشيخ المجاهد أحمد ياسين صحابيًّا؟
إنه الشيخ الذي ابتُلِيَ بإعاقات عِدَّة، فكانت إعاقته مُركَّبَةً،وفي غاية الشدة، فهل منعه ذلك من القيام بما لم يقم به الأصِحَّاء؟ هل منعتْهُ إعاقتُهُ من العمل والحركة والجهاد والبذل والتضحية والعطاء؟
أسَّسَ حركة حماس في فلسطين، وأعدَّ العُدَّة، وبنى الرجال، ودوّخَاليهود المعتدين الغاصبين، حتى لَقِيَ ربَّهُ شهيدًا بإذن الله، وقد خرج لتوِّهِ من المسجد بعد أداء صلاة الفجر.
لقد كان عنده بدل العُذْرِ الواحد عشراتُ الأعذار، ولكنَّهُ لم يرْكَنْ إلى شيءٍ منها، فضرب المثل، وأحْرَجَ كلَّ مَنْ تُسوِّلُ له نفسُهُ بالقعود، أو التراخي، أو التكاسل، أو الاعتذار بأتفه الأعذار.
فتشبَّهوا إنْ لم تكونوا مثلَهُمْ
إنَّ التَّشبُّهَ بالرجالِ فلاحُ