لو قُدّر أن هذا الشيخ استغنى بعد أن كان عائلا من الكنز الذي عثر عليه اليوم، وتغيّر حاله من مطاردة سراب عَلَف الدولة ليجد منه ما يُعَلّف به البقية الباقية من نَعَمِه في هذه السنة من سِنِي يوسف... لكان حالُه شبيها بحال ذلك الشيخ الأعرابي الذي تروي كتب الأدب قصته، وملخصها:
أن عُبيد الله بن العباس ذهب من مكة إلى معاوية بن أبي سفيان في الشام، فلما كان ببعض الطريق عارضته سحابة فأمّ أبياتاً من الشَّعَر، فإذا هو بأعرابي قد قام إليه، فلما رأى هيئته وبهاءه، وكان من أحسن الناس شارة وأحسنهم هيئة، قام إلى عنيزة له ليذبحها فجاذبته امرأته ومانعته، وقالت: أكل الدهر مالك ولم يبق لك ولبناتك إلا هذه العنيزة يتمتعون منها ثم تريد أن تفجعهن بها! فقال: والله لأذبحنها، فذَبْحُها أحسنُ من اللؤم، قالت: إذن والله لا تبقي لبناتك شيئا، فأخذ العنيزة وأضجعها، وقال:
قرينتي لا توقظي بنيه * إن توقظيها تنتحب عليه
وتنزع الشفرة من يديه * أبغض بهذا وبذا إليه.
ثم ذبح الشاة وأضرم نارا، وجعل يقطع من أطايبها ويلقيه على النار، ثم يناوله عبيد الله ويحدثه خلال ذلك بما يلهيه ويضحكه، حتى إذا أصبح عبيد الله وانجلت السحابة وهمّ بالرحيل قال لخادمه: ما معك؟ قال: خمس مائة دينار، قال: ألقها إلى الشيخ، قال: الخادم: جعلت فداك، إن هذا شيخ من الأعراب يرضيه عشر ما سميت، وأنت قادم على معاوية ولا تدري على ما توافقه على ظاهره أم على باطنه، قال: ويحك إنا نزلنا بهذا وما يملك من الدنيا إلا هذه الشاة، فخرج لنا من دنياه كلها، وإنما جُدْنا له ببعض دنيانا فهو أجود منا، ثم ارتحل فأتى معاوية فقضى حوائجه، فلما انصرف واقترب من رَحْل الأعرابي، قال لخادمه: انظر ما حال صاحبنا، فعول إليه فإذا إبلٌ وحال حسنة وشاءٌ كثير، فلما بصر الأعرابي بعُبيد الله قام إليه فأكبّ على أطرافه يقبلها، ثم قال: بأبي أنت وأمي، قد مدحتك وما أدري من أي خلق الله أنت ثم أنشده:
توسمته لما رأيت مهابة * عليه فقلت المرء من آل هاشم
وإلا فمن آل المرار فإنهم * ملوك كرام من ملوك أكارم
فقمت إلى عنز بقية أعنز * لأذبحها فعل امرئ غير نادم
فعوضني عنها غناي ولم تكن * تساويُّ عندي خمس دراهم
أصبتُ بها ألفاً من الشاء حُلَّبا * وعبداً وأنثى بعد عبد وخادم
مباركة من هاشمي مبارك * خيار بني حواء من نسل آدم.
قال عبيد الله: قد أصبت وأنا من ولد العباس ومن آل المرار، فبلغت معاوية، فقال: لله در عبيد الله، مِن أيّ بيضة خرج، وفي أي عُشٍّ درج، عبيد الله معلم الجود، وهو والله كما قال الحطيئة:
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا * وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
وإن كانت النعمى عليهم جزوا بها * وإن أنعموا لا كدروها ولا كدوا.
أرجو وآمل ألا تظلم السلطة ذلك الشيخ الذي يبدو من حاله ومقاله أنه وجد رزقا ساقه الله إليه ما كان يخطر له ببال، والله يرزق من يشاء بغير حساب...