يوم الاثنين ١٦ مايو ٢٠٢٢
بسم الله والحمد لله وبعد..
فقد كتبتُ في اليومين الماضيين أنصح شباب المسلمين باجتناب الجدل في مصائر المسيحيين بعد الموت، والاكتفاء بقول نبي الله عيسى عليه السلام: "إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العريز الحكيم" (سورة المائدة، الآية ١١٨).
وكانت غايتي من الخوض في الأمر التخفيف من صخب كثيف حول هذا الموضوع، بعد اغتيال الصهاينة للصحفية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة، وهو صخب يشوّه صورة الإسلام، ويشوّش على قضية المسلمين الكبرى، قضية القدس والأقصى، ويُظهر بعض المسلمين بمظهر الشامت بمن تربطنا بهم أرحام الدم والتاريخ والجغرافيا والنضال المشترك لتحصيل الحقوق المهدرة.
ورغم أني -بحمد الله- من أبعد الناس عن التلفيق بين الأديان، أو القول بتساويها عند الله تعالى، ومن أكثرهم تحذيرا من تمييع الإسلام وعلمنته، وأشدِّهم تربصاً بالساعين إلى تمسيحه وتهويده، فقد رأيتُ أن ذلك الموقف التفويضي، الذي دلَّ عليه ظاهر الآية ١٨ من سورة المائدة، أكثرُ أدباً مع الله تعالى، من المجاهرة بالشهادة عليهم بالنار، كما أنه أليقُ بالسياق السياسي الحالي. وأحكام الشرع لا تنفصل عن سياقاتها التطبيقية.
علما بأن هذا الموقف التفويضي لا يصحح لغير المسلمين اعتقادا، ولا يشهد لهم بجنة، ولا يبوؤهم منازل الشهداء، ولا يدعو لهم برحمة أو مغفرة. كل ما يذهب إليه هو أن ما نقله القرآن الكريم على لسان عيسى عليه السلام في هذا الأمر فيه متَّسع، وأنه أكثر أدبا مع الله تعالى، وأبعدُ عن اللَّدد والمعارك الكلامية، لمن أراد التحوط في موضوع العواقب والمآلات، والاكتفاء بخطاب شرعي حكيم جامع، يفهمه المسلم وغير المسلم.
لكن ما كتبته جاء بنتائج عكسية للأسف، وتسبّب في نقيض ما قصدتُ إليه ورميتُ. فقد زاد أوارَ الجدل بدل إنقاصه، وشوَّش على بعض أهل الفطرة من المسلمين، الذين لا يحسنون الخوض في دقائق العقائد، ولا يفهمون تشعّبات المذاهب.
وقد أبعد كثيرون النجعة في الردّ على ما لم أقل، وتجاهلوا ما قلتُه، وهو مجرد التفويض أدباً مع الله تعالى، وتأسيا بنبي الله عيسى عليه السلام. وانشغلوا بأمور لا علاقة لها بما كتبتُ، ومنها قضية الشرك في العقائد المسيحية، وحكم الاستغفار لموتاهم والترحم عليهم.
كما كلمني بعض أهل العلم والفضل ممن أثق في معرفتهم بالكتاب والسنة، ونصْحهم لله ورسوله -ومنهم شيخنا العلّامة محمد الحسن الددو والقاضي الفاضل محمد بن طايس حفظهما الله تعالى- فبينوا لي ما لديهم من مآخذ على فهمي للموضوع.
ولعلمائنا الكرام أن يفسروا آي القرآن الكريم بظواهرها وهو الأصل، أو يصرفوها عن ظاهرها بدلالات لها مستندها من الشرع واللغة. ولي أن أتفق معهم أو أختلف معهم في هذا المنحى أو ذاك من الفهم، بحسب ما أراه من معاني الشرع واللغة أيضا، وكل يؤخذ من قوله ويُرد. وقد أوردتُ في ملاحظاتي من كلام المفسرين ما أظنه كافيا لكي يعتبر المنصف ما ذهبتُ إليه رأيا شرعيا له حظ من النظر، وليس فيه ما ينقض أو يناقض معلوما من دين الإسلام بالضرورة.
لكن ما أخطأت فيه -من دون ريب- هو سوء تقدير السياق الذي كتبتُ فيه ما كتبتُ. فالفضاء الثقافي العربي مشحون هذه الأيام بموجات اللادينية التي تشكك في عقائد الإسلام، وتنشر الإلحاد والنسبية والعدمية والإباحية، وتسعى إلى استئصال هذه الرسالة العظيمة من قلوب المسلمين، وحرمان بقية البشر من هدايتها.
كما أنه مشحون بالدعوات التلفيقية (ومنها ما يسمى الإبراهيمية) التي تسعى إلى هدم الأسوار العالية بين دين الحق والأديان المحرَّفة الملفّقة، التي عبثتْ بها أيدي الزمان، وغشيتها غواشي التاريخ. فلم تبق منها سوى صورة باهتة شوهاء من الرسالة الأصلية التي جاء بها أنبياء الله الكرام.
ومن الواضح أن ما نحتاجه في هذا السياق
المشحون بالتشكيك في الإسلام والسعي إلى محو معالمه الهادية، والمتّسم بتلاقي كل التحيزات الدينية واللادينية على رمي هذا الدين عن قوس واحدة، هو التركيز على حصوننا المهدَّدة من داخلها، أكثر من التركيز على كسب قلوب الآخرين وتألفهم، رغم أن مقصد شرعي أيضا.
فهذا أوان التشمير للصدّ عن نصاعة رسالة الله الخاتمة، وليس أوان التوفيق والتلفيق. وهو أوان دعوة الناس إلى دين الحق، لا بناء مساحات مشتركة مع الأديان المحرَّفة.
وقد حذفتُ من صفحتي على تويتر كل التغريدات التي نشرتُها عن هذا الموضوع خلال اليومين الماضيين، ولستُ آذن بنشرها باسمي بعد اليوم، حتى أعود لهذا الموضوع في سياق أنسبَ، وبتحرير أدقَّ.
وأستغفر الله من كل خطأ وخطيئة، هو حسبي ونعم الوكيل.