المالية الإسلامية بين حداثة التجربة وارتفاع الطلب/ خالد علمي 

 

بعد أزيد من 5 قرون من تأسيس أول بنك تجاري بمدينة البندقية، تجد البنوك التقليدية نفسها أمام منافسة كبيرة من البنوك الإسلامية التي أحدثت وانتشرت خلال النصف الثاني من القرن العشرين فقط، والتي تستند أساسا إلى مبدأ التخلي عن المعاملات المالية الربوية.

فما هي مميزات تجربة المالية الإسلامية ومسار تطورها وآفاق مساهمتها في العملية التنموية؟

اختلاف جوهري مع البنوك التقليدية.

جاء تعريف البنوك الإسلامية في الاتفاقية الخاصة بإنشاء الإتحاد الدولي للبنوك الإسلامية كما يلي : “يقصد بالبنوك الإسلامية في هذا النظام، تلك البنوك أو المؤسسات التي ينص قانون إنشائها ونظامها الأساسي صراحة على الالتزام بمبادئ الشريعة الإسلامية، وعلى عدم التعامل بالفائدة أخذا وعطاء”، فهي مؤسسات مالية نقدية ذات أهداف اقتصادية و اجتماعية و أخلاقية، تسعى إلى تعبئة الموارد و توظيفها في مشاريع تتوافق و مبادئ الشريعة الإسلامية، ملتزمة في ذلك بعدم التعامل بالربا أخذا أو عطاءا، و محققة التنمية الاقتصادية و الرفاهية للمجتمع الإسلامي. وبناءا على ذلك، يمكن القول أن البنوك الإسلامية لا يتوقف تعريفها -فقط- على كونها لا تتعامل بالفائدة، و إنما يتوجب عليها أن تتبنى في جميع معاملاتها الاستثمارية والتمويلية الأسس و الضوابط والمقاصد الشرعية الإسلامية، بهدف تحقيق التنمية الاقتصادية الشاملة العادلة و التكافل الاجتماعي الواسع، في إطار ترسيخ مبادئ الدين الحنيف و نشر الوعي الإسلامي.

 

وتتقسم هذه البنوك الإسلامية حسب مجالات وظائفها إلى : -بنوك التنمية الدولية المملوكة لعدة دول، والتي تهدف إلى تحقيق التنمية في تلك الدول عن طريق المشاركة في المشاريع التنموية وتمويل البرامج الإنتاجية في القطاعين العام والخاص، وكذلك عبر إنشاء وإدارة صناديق دعم وإعانة المجتمعات الإسلامية، – بنوك اجتماعية والتي تهدف إلى تدعيم أواصر التعاون والتضامن الاجتماعي بين الأفراد عن طريق منح القروض وتقديم المساعدات والإعانات، إضافة إلى جمع الزكاة وتوزيعها، -بنوك تمويلية استثمارية، وهي مؤسسات مالية تقوم بمختلف الأعمال المصرفية والتجارية و المالية والاستثمارية المعروفة.

وتختلف “البنوك الإسلامية” عن “البنوك التقليدية“ في أمور جوهرية، تتمحور أساسا حول :

1- المبادئ، فالبنوك الإسلامية تعتمد على مبادئ وأحكام النظام الإسلامي، لذا فكل ما هو محرم في النظام التشريعي الإسلامي سيحرم التعامل به في البنوك الإسلامية، فمثلاً، لن يمنح تمويلاً لمصنع خمور باعتبارها محرمة في الإسلام. أما في البنوك التقليدية فليس هناك ما يحجر منح التمويل لأي سلعة كانت باستثناء السلع الممنوعة قانوناً مثل المخدرات.

2- مفهوم المال، الذي يعتبر في المنظور الإسلامي مجرد وسيط للتبادل ومخزن للقيمة فقط، يستخدم للحصول على السلع والخدمات والأصول وتقييمها حسب ضوابط الشريعة الإسلامية ومقاصدها. في حين أن النظام الاقتصادي الرأسمالي يعتبر المال بالإضافة إلى كونه وسيطا للتبادل ومخزن للقيمة، سلعة متداولة، وبالتالي يسمح للبنك التقليدي بأن يؤجر النقود بأعلى من قيمتها عندما يمنح القروض ويستفيد من الفرق ما بين القيمة الاسمية والقيمة المستردة من المقترض، وكذلك بإمكانه أن يستأجر النقود ويدفع زيادة مقابل ذلك عندما يقوم المتعاملون بإيداع النقود لديه.

3- العلاقة مع البنك، فعند إيداع الأموال لدى البنك التقليدي تنشأ علاقة مديونية ما بين البنك التقليدي والمتعامل، وفي هذه الحالة سيكون البنك مدين للمتعامل بأصل الوديعة بالإضافة إلى الفائدة والتي تعد عائدا ثابتا على رأس المال، وسيكون البنك ضامناً للوديعة بكل الأحوال. لكن وباستثناء “القرض الحسن” المقدم كقرض دون مقابل أو زيادة على المدين، لا توجد علاقة مديونية في البنوك الإسلامية التي تستقبل الأموال من المودعين على أساس عقد المضاربة، وهو عقد يكون المال فيه مقدم من جانب والعمل مقدم من جانب آخر، ويقوم البنك باستثمار أموال المودعين دون أن تكون مضمونة من قبل البنك إلا في حال التقصير أو مخالفة شروط العقد.

4- صيغ استثمار الأموال، تستقبل البنوك التقليدية الأموال كقرض مضمون بفائدة وتقرض الأموال للمتعاملين كقرض بفائدة. أما البنوك الإسلامية فإنها تستقبل الأموال بصيغة المضاربة، حيث يكون المتعاملون أصحاب رأس مال، ويكون البنك وكيل استثمار، ذلك لأن الشريعة الإسلامية تحرم مبادلة النقد بالنقد مع وجود زيادة مشروطة على رأس المال.

5- تحمل المخاطرة، ففي البنوك التقليدية، يتحمل الطرف الذي اقترض المال بهدف الاستثمار كل المخاطر، ويلتزم بِرد مبلغ القرض للبنك مع الفوائد المترتبة عليه حتى لو خسر في المشروع، في حين أن البنوك الإسلامية تعمل على توسيع دائرة المخاطر في الاستثمار، سواء كانت مانحة للتمويل أو مستقبلة له، فهو عند منحه للتمويل يتحمل جزء من المخاطر بحسب العقد الذي منح التمويل بناءً عليه، ويشارك المستثمر في نتائج الاستثمار طالما لم يكن من طرفه تقصير أو مخالفة للشروط. و الأمر ذاته إذا كان البنك الإسلامي هو المستثمر، فإن المودع بدوره سيتحمل جزءا من مخاطر الاستثمار.

6- العائد وتوزيع الأرباح، تحدد الأرباح في البنوك التقليدية كنسبة محددة ومعلومة من رأس المال منذ اللحظة الأولى من إيداع المال لدى البنك، مثلا، لو أن شخصا أودع مبلغ مائة ألف درهم لدى البنك، وكانت نسبة الفائدة لديه 5%، فإنه سيحصل على المائة ألف درهم بالإضافة إلى عائد ثابت مقداره خمسة آلاف درهم. أما في البنك الإسلامي فإن العائد يتحدد كنسبة شائعة من الربح المتحقق من النشاط الاستثماري، فمثلا، لو أن نفس الشخص في المثال السابق قرر أن يودع المائة ألف درهم في البنك الإسلامي، فسيكون له عائد بنسبة معينة من الربح المتوقع في نهاية السنة المالية، لكنه غير مؤكد “عائد مضنون” لأن معرفة الربح مسبقا على وجه اليقين غير ممكنة.

أساليب وصيغ للاستثمار بدون ربا.

جعل الإسلام مصدر الكسب الأساسي هو العمل، ولم يسمح أن يكون مرور الزمن وحده مبررا للكسب، لأن الكسب بهذه الوسيلة يزيد من حجم النقود دون الزيادة في حجم الإنتاج، فيؤدي بالتالي إلى التضخم، ومن هنا جاء تحريم الإسلام للربا بأي شكل من الأشكال. فإذا كانت البنوك التقليدية لا تملك أساسا إلا وسيلة واحدة للعمل ألا وهي القرض بفائدة وإن تعددت أشكاله، فبالمقابل نجد البنوك الإسلامية تسعى إلى توفير صيغا متعددة للاستثمار، اعتمادا على الاجتهاد الفقهي، كالتالي :

– المضاربة، وهي نوع من أنواع الشراكة، يكون فيه رأس المال من شخص، والعمل من شخص آخر، وهي إما مضاربة مقيدة بزمان أو مكان أو نوع من السلع أو تجارة أو بائع أو مشتري أو بأي شروط يراها صاحب المال لتقييد المتعامل معه “المضارب”، وإما مضاربة مطلقة وغير مقيدة.

 

– المشاركة، وهي صيغة يكون فيها البنك ليس مجرد ممول ولكن مشارك للمتعامل معه، ويتحمل فيها الجميع -البنك والمتعامل معا- مسؤولية المخاطر التي قد تتعرض لها العمليات التي يقومون بها طالما كان ذلك بدون تقصير من جانبهم. و تختلف المشاركة عن المضاربة في كون صاحب الجهد يملك إلى جانب جهده، جزءا من المال، ولكنه غير كاف للقيام بنشاطه، فيضطر إلى اللجوء إلى طرف آخر ليقدم له ما يحتاجه من مال، و يتقاسم الطرفان الربح والخسارة بصيغة يتم الاتفاق عليها مسبقا، فالمشاركة تقتضي وجود جهة تملك المال وجهة تملك المال والجهد معا. وبذلك لن يكون البنك مجرد دائن لأصحاب النشاط الإنتاجي، بل شريكا معهم في هذا النشاط، يبحث معهم عن أفضل مجالات الاستثمار ويرشدهم إلى أفضل الطرق.

– المشاركة المتناقصة : وهي تختلف عن المشاركة الدائمة في عنصر واحد وهو الاستمرارية، إذ يعطي البنك الحق للشريك ليحل محله في ملكية المشروع، ويوافق على التنازل عن حصته في المشاركة دفعة واحدة أو على دفعات حسبما ما تقتضي الشروط المتفق عليها.

– المرابحة، وهي إحدى صور “بيع الأمانة” المعروفة في الفقه الإسلامي والتي تختلف عن بيوع المساومة في أنه في النوع الأول -أي بيوع الأمانة- يتم الاتفاق بين البائع والمشتري على ثمن السلعة أخذا في الاعتبار ثمنها الأصلي الذي اشتراها به البائع، بخلاف بيوع المساومة التي يتم فيها الاتفاق بين البائع والمشتري على الثمن بغض النظر عن الثمن الأصلي للسلعة، وتتم عملية المرابحة في حالة زيادة ربح السلعة عن الثمن الأصلي للسلعة التي تم شراؤها به، أو بمعنى آخر، يتكلف البنك بشراء ما يحتاجه المتعامل من أجهزة أو سلع بثمن معلوم وببعه له بالتقسيط مقابل ربح معين متفق عليه مسبقا ببن البنك والمتعامل.

– البيع إلى أجل معلوم، ويعني أن يقوم البنك بتسليم البضاعة المتفق عليها إلى العميل عند إبرام التعاقد مقابل تأجيل سداد الثمن إلى وقت محدد، على شكل دفعات أو أقساط، فيجوز البيع بثمن حال كما يجوز بثمن مؤجل، وكما يجوز أن يكون البعض معجلا والبعض الآخر متى كان متفق عليه. و إذا كان الثمن مؤجلا تجوز الزيادة فيه من أجل التأجيل، لأن الأجل حصة من الثمن، وهذا يعني أن البيع بالتقسيط مؤداه أن يكون السعر أعلى من السعر الحالي.

– السَّلَم (بفتح اللام)، ويعني بيع شيء غير موجود بالذات، بثمن المقبوض في الحال على أن يوجد الشيء ويسلم للمشتري في أجل معلوم. فبينما يكون بيع الأجل هو تقديم تسليم المبيع وتأخير الثمن، فإن بيع السلم هو على عكس ذلك، أي تقديم الثمن من قبل المشتري وتأخير تسليم المبيع. وبينما يكون تأخير الثمن في البيع بأجل مقابل زيادة في الثمن، يكون تقديمه في حالة السلم مقابل تخفيف في الثمن.

– الاستصناع، ويعني-لغة- أن يطلب شخص من آخر صناعة شيء له. فيمكن للبنك أن يكون مستصنعا، أي طالبا لمنتجات صناعية ذات مواصفات خاصة، فتصبح هذه المصنعات ملكا للبنك، يتصرف فيها بالصيغ المتاحة له من بيع أو تأجير أو مشاركة… إلخ. كما يمكن أن يكون البنك في هذه الصيغة وكيلا لجهة أخرى من خلال عمولة معينة، أو يكون ممثلا للشخص المصنع -الصانع أو العامل- في عقد الاستصناع. وفي كل الحالات يقوم البنك بالتمويل من ماله الخاص، أو من أموال المودعين الاستثمارية.

– الإجارة، وهو تمليك منفعة معلومة بأجر وبمدة معلومتين. وهي إما عقد إجارة عادية، أو عقد إجارة واقتناء مقرونا بالبيع في نهاية العقد. وهذا الأخير يختلف عن “التمويل التأجيري” في البنوك التقليدية بكون الأقساط المدفوعة لا تقبل الزيادة نظير الأجل، بل هي ثابتة لا تتغير إذا حصل تأخير في السداد، كما أنها لا تحسب على أساس حصة لواجب الكراء وحصة للفائدة، فهي بذلك أقساط إجارة مجردة.

– المزارعة، ومعناها دفع الأرض إلى من يزرعها أو يعمل عليها والزرع بينهما، وهي نوع من التعاون بين العامل القادر على الزراعة وصاحب الأرض العاجز عن الزراعة.

حداثة النشأة وسرعة الانتشار.

يعود تاريخ ظهور مؤسسات التمويل الإسلامي إلى سنة 1940 في ماليزيا التي أنشأت فيها صناديق للادخار بدون فائدة، ومنها انتقلت الفكرة إلى باكستان سنة 1950. وفي سنة 1963 تأسست أول تجربة لبنوك الادخار المحلية في منطقة الصعيد المصرية تعمل على تجميع المدخرات الصغيرة لصغار الفلاحين و إعادة توظيفها على أساس المشاركة بدون فائدة سواء كانت أخذا أو عطاءا. و قد عرفت هذه التجربة خلال سنواتها المعدودة إقبالا من طرف المودعين الذين وصل عددهم إلى تسعة و خمسين ألف مودع خلال ثلاث سنوات فقط. وقد تزامنت هذه التجربة بتجربة مماثلة في باكستان اعتمدت مقاربة أخرى من خلال محاولة تحويل البنوك التقليدية إلى بنوك إسلامية لا تتعامل بالربا، مع الإبقاء على الآليات المعمول بها في هذه البنوك. وخلال المؤتمر الثاني لوزراء خارجية الدول الإسلامية المنعقد في كراتشي بباكستان سنة 1970، قدمت مصر وباكستان اقتراحا بإنشاء بنك إسلامي دولي أو اتحاد دولي للبنوك الإسلامية. و في سنة 1971، تم تأسيس تجربة بنك ناصر الاجتماعي الذي يمنع التعامل بالفائدة، والتي لاقت اهتماما واسعا، وكانت سببا في طرح فكرة إقامة بنوك إسلامية تعمل على تقديم خدمات مصرفية متكاملة في اجتماع وزراء مالية الدول الإسلامية سنة 1973، ثم بعد ذلك في افتتاح أول بنك إسلامي “البنك الإسلامي للتنمية” من طرف منظمة المؤتمر الإسلامي بجدة سنة 1974.

وبوتيرة سريعة، توالت عملية تأسيس العديد من المصارف الإسلامية في الشرق الأوسط، على وجه الخصوص، ك“بنك دبي الإسلامي” سنة 1975، “مصرف فيصل الإسلامي” في مصر سنة 1977، “مصرف الأردن الإسلامي” سنة 1978، “شركة الاستثمار الإسلامي المحدودة” في الإمارات العربية المتحدة سنة 1979 و”مصرف إسلام ماليزيا” سنة 1983. وقد كانت باكستان أول بلد يقرر “أسلمة” كل نظامه البنكي سنة 1979، ليتبعه بعد ذلك كل من السودان وإيران سنة 1989. وقد أدى التطور والانتشار الملحوظ للمصارف الإسلامية في الشرق الأوسط إلى توسعها لتشمل دول أخرى حول العالم. فقد كانت أولى ملامح الوجود المصرفي الإسلامي في بريطانيا في أواخر السبعينات، حين بدأ السماح للشركات الاستثمارية الإسلامية في العمل في بريطانيا. وفي سنة 2004، تم إنشاء “البنك الإسلامي البريطاني”IBB كأول بنك إسلامي، بفضل مجهودات حكومية لتعزيز دور المصرفية الإسلامية، استنادا لدراسات باحثين شددوا على أهميتها، كالإقتصادي “رودني ويلسونRodney Wilson “، بعدها فتحت بنوك تقليدية نوافذ لها للمنتجات الإسلامية. وخلال الأزمة المالية لسنة 2008، زاد الحديث والنقاش حول المالية الإسلامية التي شهدت نموا سريعا وأكدت صمودها في وجه الأزمة، وإمكانية طرحها كخيار إلى جانب النظام المالي التقليدي، فكان أن تم إصدار، في أواخر سنة 2011، أولى صكوك السوق المالية الإسلامية في فرنسا، وفتحت على إثرها نوافذ للمنتجات الإسلامية من طرف كل من “البنك الشعبي” و “بنك فرنسا” للاستجابة لمتطلبات سوق العقار الفرنسي. وأنشأت بعدها “المؤسسة الفرنسية للمالية الإسلامية IFFI ” لتعزيز التمويل الإسلامي في فرنسا. وهكذا توالت مسيرة فتح المؤسسات المالية الإسلامية لتصل إلى باقي الدول الأوروبية كسويسرا، ألمانيا، لوكسمبورغ، روسيا، ايرلندا … وفي سنة 2013، دشنت اسبانيا دخولها ميدان المصرفية الإسلامية، بتأسيس أول مركز للدراسات و الأبحاث في الاقتصاد و المالية الإسلامية من أجل التعريف بماهية المصرفية الإسلامية وفتح قنوات التواصل مع مختلف المهتمين من المستثمرين والباحثين والمؤسسات. وقد تابعت المؤسسات المالية الإسلامية انتشارها عبر العالم إلى أن أصبح عددها يناهز 900 مؤسسة، موزعة على أكثر من 60 دولة عبر العالم، وتم خلق معايير خاصة بالسوق المالي الإسلامي ك “معيار داو جونس Indice Dow Jones du marché islamique ” في عالم القيم المالية.

 

وعموما، تعتبر بريطانيا من الدول الأوربية التي حققت إنجازا كبيرا في سياسة احتواء المالية الإسلامية بأكثر من عشرين مؤسسة مالية إسلامية. و من ضمن هذه المؤسسات توجد خمس بنوك تعلن موافقة كل معاملاتها للشريعة الإسلامية بشكل كامل، كبنك “الريان” الذي يعتبر أكبر مزود للتمويل العقاري الإسلامي ويوفر خدمات مالية لأكثر من 85000 عميل في بريطانيا. أما من الناحية الأكاديمية، فيتم حاليا تدريس المالية الإسلامية في العديد من الجامعات الأوروبية (بربطانيا، فرنسا، ألمانيا، سويسرا…)، وتعتبر جامعات بريطانيا الرائدة عالميا في تدريس المالية الإسلامية في ما يزيد عن خمسين مؤسسة تكوينية وجامعية، كما تمثل اللغة الانجليزية الأكثر استعمالا في تدريس المالية الإسلامية عبر العالم بنسبة 75%، تليها اللغة العربية بنسبة 20%.

بداية متأخرة وخطوات متأنية في المغرب.

مرت نشأة المالية الإسلامية بالمغرب “البنوك التشاركية” عبر ثلاث مراحل زمنية أساسية :

1- مرحلة التمهيد، فمنذ تأسيسها سنة 1961،دأبت “رابطة علماء المغرب” على التأكيد، عبر مؤتمراتها، إلى ضرورة منع المعاملات الربوية في البنوك وتعويضها بالمصرفية التشاركية الإسلامية. فكان أن أنشأت “الجمعية المغربية للدراسات والبحوث في الاقتصاد الإسلامي” سنة 1989، والتي كان لها دور كبير في التعريف بأهمية الموضوع. وقد دشنت مرحلة التمهيد سنة 1985 بوضع المؤسستان المصرفيتان الدوليتان، “دار المال الإسلامي” و “بنك البركة” أول طلب لدى البنك المركزي لإنشاء بنك تشاركي في المغرب. وتلت هذه المحاولة تأسيس فرع “بنك التقوى” بطنجة سنة 1988، ثم فتح “بنك الوفا” لشبابيك التمويل التشاركي سنة 1989. لكن هذه المحاولات كانت تقابل بالرفض أو التأجيل من طرف البنك المركزي، وذلك بسبب التنافي مع القوانين الجاري بها العمل في المغرب في مجال إنشاء البنوك آنذاك.

2- مرحلة المنتجات الموازية أو البديلة، ففي سنة 1996، عمد “بنك الوفا” إلى إنشاء “صندوق المشاركة”، وهو صندوق استثماري يحاول تطبيق أحكام المعاملات الإسلامية بموازاة مع التمويلات والمعاملات التقليدية. ولنفس الهدف، كانت خطوة إنشاء “الشركة الدولية للأعمال والمال-دعم-” سنة 1998. وفي سنة 2007، أصدر بنك المغرب دورية تسمح بثلاث منتجات تشاركية : الإجارة والمشاركة والمرابحة، وهي التي اشتهرت بالمنتجات البديلة. فتأسست على إثر ذلك مؤسسة “دار الصفاء’ من طرف بنك “التجاري وفا بنك” سنة 2010,، كأول مؤسسة للمنتجات البديلة بالمغرب. لكن هذه التجربة لم تستطع تحقيق أهدافها المنتظرة، وذلك لعدة أسباب، كغياب الأساس القانوني، عدم وجود هيئة للمطابقة الشرعية، ثقل الازدواج الضريبي، عدم تأهيل الأطر، وضعف الترويج.

3- مرحلة التأسيس، بعدما برزت أهمية القطاع المصرفي الإسلامي على الصعيد المحلي والدولي، انطلقت، سنة 2013، والاستشارات القانونية والاقتصادية والسياسية لإيجاد صيغة مناسبة لإدخال المالية الإسلامية في صميم شريان القطاع البنكي المغربي، وقد توجت في الأخير بصدور الإطار القانوني للقطاع البنكي بالمغرب المتضمن للمالية التشاركية سنة 2015. وقد تم اختيار اسم “البنوك التشاركية” عوض اسم “البنوك الإسلامية”، لاعتبارات سياسية ودينية مرتبطة بالسياسة العامة للبلاد. ويمكن ربط هذا التأخير في الدخول المغربي إلى تجربة المالية الإسلامية بالتأخر المماثل الذي حصل في فرنسا وإسبانيا المرتبطتان اقتصاديا وماليا بالمغرب، وكذاك غياب ثقافة المالية الإسلامية التي انتشرت أساسا في دول الخليج المرتبطة اقتصاديا بالعالم الأنجلو-سكسوني الذي بدأ في التموقع في اقتصاديات دول فرانكفونية إفريقية كالمغرب. وفي سنة 2018، تم الترخيص لأولى المؤسسات البنكية، سواء على شكل بنوك مفتوحة من طرف بنوك تقليدية وطنية ك “بنك الصفاء” أو مفتوحة بشراكة بين بنوك تقليدية وطنية مع بنوك إسلامية دولية، ك “أمنية بنك”، “بنك اليسر”، “البنك الأخضر” و “بنك التمويل والإنماء”، أو على شكل شبابيك مفتوحة من قبل بنوك تقليدية ك “دار الأمان”، “نجمة” و “الرضا”. وهذه المؤسسات تهدف إما إلى تكوين تجربتها الخاصة أو الاستفادة من التجارب الدولية أو فقط الانفتاح على المجال كما حصل بالنسبة لبعض البنوك التقليدية الفرنسية بالمغرب. وبالرغم من أنها مؤسسات مفتوحة من قبل بنوك تقليدية، فقد جعل القانون الإطار الجديد هذه المؤسسات تحت رقابة لجنة شرعية تابعة للمجلس العلمي الأعلى(CSO)، والمكونة من فقهاء في الشريعة الإسلامية وخبراء في الاقتصاد الإسلامي.

وبعد سنوات قليلة من انطلاقها، تمكنت البنوك التشاركية من فرض وجودها وتعزيز المشهد المصرفي المغربي بوسائل بديلة للتمويل. فخلال الربع الثاني من سنة 2018 فقط، كان للمغرب فعليا ما يقارب 80 فرع من البنوك التشاركية في مختلف المدن الصغيرة والكبيرة، وهو رقم أخذ في الارتفاع، خصوصا مع تزايد الطلب من طرف المغاربة على هذا النوع من البنوك، وذلك على الرغم من أن نظامها المالي لازال في مرحلة التطوير. وتستند المنتجات التي تقدمها هذه المؤسسات بشكل رئيسي على نظام المرابحة، خاصة في مجال العقار، والتي ناهزت 4 مليارات درهم في نهاية سنة 2018 و8 مليارات درهم في نهاية سنة 2019. وقد تمت المصادقة على النسخة التشاركية للتأمين “تكافل”، كتكافل لتكميل المرابحة يشمل أيضا بطاقات الدفع والخدمات الشخصية والمهنية الأخرى، وهو نوع من التأمين يضمن، في حالة الوفاة، انتقال ملكية العقار للورثة وليس للبنك التشاركي. وخلال الفترة الأولى من سنة 2021، ارتفعت التمويلات التي وفرتها المصارف التشاركية إلى 18.5 مليار درهم، وهو ما يعادل زيادة نسبتها 50% مقارنة بالفترة نفسها من سنة 2020، وقد توزعت هذه الاستثمارات بنسبة كبيرة على قطاع العقارات (85%) وبنسب أقل على قطاعات الاستهلاك (6%) والتجهيز (8%) والخزينة (0.2%). وقد بلغ حجم حسابات الشيكات والحسابات الجارية نحو 5.1 مليار درهم (أي بزيادة سنوية تصل إلى 41.9%)، فيما بلغت الودائع الاستثمارية نحو 1.6 مليار درهم.

وهكذا يكون المغرب قد دخل في تجربة المالية الإسلامية بطريقة مختلفة، فهي تجربة بدأت متأخرة، الشيء الذي قد يُساعد في التعرف على أهم العقبات التي يمكن أن تواجه نجاح البنوك التشاركية، ومحاولة التصدي لها من خلال استقراء ودراسة تجارب التمويل الإسلامي المختلفة والمنتشرة عبر العالمين الإسلامي وغير الإسلامي منذ أكثر من أربعين.

فمن ناحية الفرص الاقتصادية التي يرجى أن توفرها البنوك التشاركية بالنسبة للمغرب، يمكن ذكر : -جلب رؤوس الأموال الأجنبية، وخاصة من دول الخليج، -استقطاب شريحة مهمة من المواطنين المغاربة المقيمين وغير المقيمين، والمغتربين المقيمين بالمغرب، والذين لا يرغبون في التعاملات الربوية، -استقطاب أصحاب المشروعات الصغيرة والمتوسطة التي يعاني أغلبها من مشكلات في التعامل مع البنوك التقليدية. -تنويع التمويل بما يساعد على تنويع الاستثمارات.

أما من ناحية التنزيل في الواقع، فقد برزت بعض العقبات خلال السنوات الأولى من التجربة المغربية منها : -حداثة التجربة التي تتطلب المزيد من الاهتمام والرعاية، -محدودية المنتجات التي أتاحتها المصارف الإسلامية في بداية عملها، والتي انطلقت بعقد المرابحة فقط، ولو أنها امتدت بعد ذلك إلى منتجات أخرى كتمويل مشاريع استثمارية، -نقص في عدد الأطر العلمية والتقنية في مجال المالية الإسلامية، كنتيجة طبيعية لحداثة التجربة وقلة التخصصات الأكاديمية في المجال، -المنافسة الشديدة وغير المتكافئة مع البنوك التقليدية التي تمتلك رصيدا كبيرا من الخبرة والعملاء ورؤوس الأموال والعلاقات العامة والسيطرة على السوق المصرفي والأرباح الخيالية، وهو ما يحتم على البنوك التشاركية مضاعفة الجهد والتكلفة في خدماتها المصرفية والتمويلية، -المشاكل التشغيلية المرتبطة بتقديم الخدمات المصرفية والخدمات التمويلية، -ارتفاع حجم التمويلات الممنوحة من قبل هذه البنوك التشاركية مقارنة بانخفاض حجم الودائع، وهي أخطر عقبة قد تعصف بهدا القطاع، فقد غلب على تعاملاتها خلال السنوات الأولى من انطلاقها طابع تمويل احتياجات العملاء فقط، وليس استقبال الودائع، وهي معضلة مقترنة بازدواجية سلوك العملاء الذين يفتحون حسابات عند المصارف التقليدية، في حين يسعون للحصول على التمويل من المصارف التشاركية، -تداعيات جائحة كورونا على بعض القطاعات الاقتصادية خصوصا قطاع السيارات، -ضعف العملية الترويجية للتعريف بمنتجات البنوك التشاركية. لكن أغلب هذه الصعوبات قد تتلاشى مع مرور الوقت بالاستفادة من تجارب المؤسسات المالية الإسلامية في مناطق أخرى من العالم. هذا وتجدر الإشارة أنه لا يمكن الحكم على أداء تجربة البنوك التشاركية المغربية قبل استكمال عملية توسيع الفروع والأدوات، ولائحة المنتجات المتنوعة التي تتطلب ملائمة مع الشريعة الإسلامية عموما والمذهب المالكي خصوصا، وهي أمور قد تتطلب سنوات ليست بالقليلة لتحقيقها.

نحو مساهمة فعالة في التنمية.

لم يعد الهاجس الأخلاقي في المعاملات المالية منحصرا عند المسلمين فقط، بل أضحى ظاهرة عالمية تستقطب شرائح واسعة من المجتمعات الأخرى، شرائح لم تعد تستحمل الأساليب المتبعة في البنوك التقليدية التي تهتم فقط بتحقيق الربح دون أي اعتبار للبعد الأخلاقي والقيمي والاجتماعي، مما أدى إلى هيمنة المعاملات غير المشروعة والإفراط في الائتمان السلبي والصفقات الوهمية التي لا تمت للإنتاج الحقيقي بأي صلة. وفي هذا السياق، قد يكون للمؤسسات المالية الإسلامية الدور الفعال في تهذيب المعاملات المالية في اتجاه المساهمة الفعالة في التنمية المستدامة للمجتمعات. فمن حيث إنها تتعامل بالمشاركة وليس بالفائدة، فهي تمتلك القدرة على :

1- تجميع الأرصدة النقدية القابلة للاستثمار،

2- توزيع المتاح من الموارد النقدية على أفضل الاستخدامات لأغراض التنمية الاقتصادية والاجتماعية، بمعنى التمويل يكون على أساس إنتاجيته وكفاءة القائمين على المشروع،

3- توزيع الموارد المالية على أسس الإنتاجية والكفاءة الاقتصادية، والإسهام المباشر في توزيع الدخل القومي على نحو عادل خلال عملية التنمية،

4- تشجيع السلوك الإيجابي الدافع لعملية التنمية.

لكن نجاح المؤسسات المالية الإسلامية في أداء دورها الإنمائي و رهين بالنوايا الصادقة للقائمين عليها، والأفعال التي تؤكد التوسل بالشريعة الإسلامية ومقاصدها في جميع المعاملات والتصرفات، والكفاءة في أداء الأعمال، وكذلك إيجاد مناخ عام يساعد على تطوير وتنمية تلك التجارب.

 

المصدر: صحيفة هسبرس الالكترونية