يستعد التونسيون للتوجه لصناديق الاقتراع في 25 يوليو/تموز للتصويت على مشروع الدستور الذي طرحه الرئيس قيس سعيّد وينص بالخصوص على منح رئيس الدولة صلاحيات واسعة على حساب البرلمان. وعلى الرغم من معارضة واسعة لمشروع الدستور حتى من قبل اللجنة الاستشارية التي كلفها سعيّد بصياغة مسودته، لم تنجح المعارضة التونسية بمختلف توجهاتها في تعبئة الشارع أو تقديم بديل للتصدي لما تعتبره "تأسيسا لحكم دكتاتوري مطلق".
على الرغم من انتقادات واسعة في المشهد السياسي والمدني لخطواته، يمضي الرئيس التونسي قيس سعيّد قدما في تنفيذ ما يسميه مسار "25 يوليو" الذي حل بموجبه مجلس النواب وعطّل الدستور وغيّر أعضاء هيئات مستقلة مثل المجلس الأعلى للقضاء وهيئة الانتخابات.
ولعل مشروع الدستور الجديد الذي يمنح رئيس الدولة صلاحيات موسعة يعد اختتاما لهذا المسار الانتقالي الذي تصفه المعارضة التونسية "بالانقلاب على المكتسبات الديمقراطية لثورة 2011 وعودة للحكم الفردي المطلق".
وبالرغم من اتفاق معظم شرائحها وتوجهاتها على انفراد سعيّد بمصير البلاد، لم تنجح الأحزاب التونسية في تعبئة الشارع أو تشكيل قوة مضادة للرئيس التونسي قادرة على ثنيه على تنفيذ مشروعه السياسي.
وهنا يعتبر المحلل السياسي سعيد الزواري أن المعارضة وعلى رأسها حركة النهضة الإسلامية التي كانت في الحكم تأخرت في الرد على قرارات سعيّد في 25 تموز/يوليو 2021 مضيفا: "البيانات الحزبية كانت ضعيفة، الصراعات وتردي صورة البرلمان لدى التونسيين جعلت الرهان على الشارع خاسرا.
زد على ذلك أن هامش التحرك لدى المعارضة التونسية لم يكن كبيرا ومع فشل استقطاب الشارع، راهن بعضها على المواقف الدولية لكن القوى العالمية أبدت اعتراضات باهتة لاستحواذ سعيّد على معظم السلطات".
تعبئة شعبية ضعيفة
بعد امتصاص صدمة إجراءات 25 تموز/يوليو، التي رحب بها شق واسع من الرأي العام، تحركت شخصيات وقوى معارضة في محاولة لتعبئة الشارع ضد مشروع سعيّد وتجلت بالخصوص في تنسيقية "مواطنون ضد الانقلاب" التي نظمت بعض المظاهرات التي لم يتجاوز المشاركون فيها بضعة آلاف.
وتحول الزخم الاحتجاجي لهذه الحركة شيئا فشيئا لائتلاف قوى معارضة اتحدت في السابق للتصدي لحكم الرئيس الراحل زين العابدين بن علي من خلال ما يعرف بـ"جبهة الإنقاذ" التي قدمت نفسها على أنها قوة مضادة لسعيّد لكن تحركاتها الشعبية لم تلق الزخم المنشود.
ويرى مراقبون أن فشل المعارضة في إيقاف مسار سعيّد – أو على الأقل جره للحوار وتقديم تنازلات - يأتي بسبب تصدر معظم قياداتها للمشهد السياسي في البلاد طيلة السنوات العشر التي تلت رحيل بن علي.
أحزاب "انتهازية"
يحمّل كثير من التونسيين هذه النخبة السياسية ما آلت إليه الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بالبلاد من انهيار للعملة المحلية واهتراء الطبقة الوسطى وتعطل محرّكين مهمين للاقتصاد الوطني وهي السياحة والفوسفات.
ويشير الزواري إلى أن الأحزاب التي حكمت طيلة عشرة سنوات لم توفر للتونسيين سببا للخروج للشارع للدفاع عن الطبقة الحاكمة في ظل ترسخ صورة لدى الرأي العام بأنها "طبقة انتهازية تحقق المكاسب السياسية لنفسها مقابل تدهور الوضع الاقتصادي العام بالبلاد".
فبالرغم من نجاحها في التوافق على دستور 2014 الذي يؤسس لحكم تعددي يضمن الحريات ويمنح جزءا من السلطة لهيئات دستورية مستقلة، إلا أنها لم تنجح في تحقيق استقرار سياسي يمهد لتحقيق "الثورة الاقتصادية" ما حوّل حلم الديمقراطية إلى كابوس في أذهان كثير من التونسيين.
انقسامات حادة
عدنان منصر رئيس مركز الدراسات الاستراتيجية حول المغرب العربي يعتبر أن هذه الأطراف السياسية نفسها هي التي مهدت للإجراءات الاستثنائية التي فرضها سعيّد من خلال انقساماتها الحادة ما أفقدتها كثيرا من المصداقية مضيفا: "جزء من الرأي العام التونسي يحمّل الأحزاب التي كانت في دوائر الحكم مسؤولية الأزمة التي أدت إلى قرارات 25 يوليو حيث أبدى قسم واسع من التونسيين رفضه المبدئي لعودة هذه الأطراف لتصدر المشهد العام. عامل آخر ساهم في ضعف قدرة هذه الأطراف هو رفضها للقيام بنقد ذاتي وعدم اعترافها للرأي العام بمسؤوليتها عن الأزمة".
محاولات لم شمل الطبقة السياسية لمواجهة مشروع سعيّد لم تنجح في توحيد كل الحساسيات على قلب رجل واحد للتصدي لسعيّد، فالحزب الدستوري الحر الذي تصدر طويلا نوايا التصويت في استطلاعات الرأي اختار العمل منفردا للاحتجاج على قرارات سعيّد في ظل خلافاته العميقة مع حركة النهضة بالأساس.
هنا يضيف منصر: "جزء كبير من القيادات السياسية المعارضة لسعيّد أبدى ترددا ورفضا في بعض الأحيان لوضع اليد في اليد مع أضلاع الحكم قبل 25 يوليو رغم تحفظاته على خطوات الرئيس وآخرها مشروع الدستور التونسي. فكثير منهم اعتقد أن إجراءات سعيّد خلصته من حكم النهضة وحليفيها ائتلاف الكرامة وقلب تونس لكنها وجدت نفسها في مواجهة مشروع حكم فردي".
اتحاد الشغل في "المنطقة الرمادية"
وبامتلاكه نفوذا تاريخيا في فترة الأزمات السياسية، يرى محللون أن موقفا قويا للاتحاد العام التونسي للشغل كان ليثني سعيّد عن مواصلة تنفيذ مشروعه دون الإصغاء إلى الأصوات المعارضة. لكن المركزية النقابية اختارت إمساك العصا من الوسط بقولها إن هذا الدستور يتضمن صلاحيات واسعة للرئيس وتقزيما لباقي هيئات وهياكل الدولة لكنها تركت حرية الاختيار للنقابيين بالتصويت بنعم أو لا على المشروع المعروض على الاستفتاء.
ويعتبر منصر أن بقاء الاتحاد في "المنطقة الرمادية" بشأن مشروع سعيّد يجد مبرراته في تركيبته الداخلية المقعدة ولعبه الحذر على التوازنات تماما مثل ما كان عليه الوضع في 13 كانون الثاني/يناير 2011 قبل يوم واحد من رحيل بن علي مضيفا: "اتحاد الشغل ليس حزبا سياسيا وتاريخه مليء بمثل هذه المواقف الرمادية وحتى الإضراب العام الذي نفذه في منتصف حزيران/يونيو 2022، الذي فهم على أنه موقف ضد سعيّد، فحمل مضامين اجتماعية واضحة يطالب الحكومة بتنفيذها".
من جهته، يرى الزواري أن " قيادة الاتحاد لا ترغب في قطع شعرة معاوية مع الرئيس قي ظل انتظارها لاستحقاقات اجتماعية ومفاوضات حول الأجور مع الحكومة المقبلة".
"حكم فردي مطلق"
وفي المشروع الذي طرحه الرئيس سعيّد، سُحبت معظم السلطات من البرلمان الذي تم تقسيمه إلى غرفتين إذ لا يمكن للمجالس النيابية محاسبة رئيس الدولة أو إصدار لائحة لوم ضده. وهو ما يعني سحب البساط من تحت أقدام الأحزاب حتى في حال فوزها بالانتخابات التشريعية المقررة في 17 كانون الأول/ديسمبر المقبل.
ويرى منصر أن عدم إدراج أي بند بالدستور لمساءلة رئيس الدولة يعد سابقة تاريخية إذ يقول: "حتى أول دستور في تاريخ البلاد سنة 1861 نص على أن عقدة الباي تعتبر منحلة في حال ارتكابه تجاوزات، مشروع الدستور يمنح حكما مطلقا للرئيس بما يشبه حكما بحق إلهي لرئيس لا يخطئ ولا يمرض ولا يموت، يملك سعيّد اعتدادا بنفسه يجعله لا يلتفت إلى أي رأي مخالف بما فيه من اللجنة التي اختارها بنفسه لصياغة الدستور".
وكان رئيس لجنة صياغة الدستور الصادق بلعيد قول إن الدستور المقترح الذي نشره الرئيس قيس سعيّد لا يمت بصلة للمسودة الأولى، مضيفا أنه يحتوي على فصول يمكن أن تمهد الطريق "لنظام ديكتاتوري مشين".
وقال بلعيد، أستاذ القانون الدستوري السابق، إن أحد فصول دستور سعيّد يتضمن "الخطر الداهم الذي يسمح للرئيس بتمديد ولايته وتمهيد الطريق لديكتاتورية مشينة". وأضاف أن "الدستور تضمن نظاما محليا وإقليميا مبهما وغامضا ينذر بمفاجآت غير متوقعة".
فرانس 24