الحلقة الرابعة والأخيرة ��كانت جردة الحساب عبارة عن نثر الكثير من معطيات الساحة للرأي العام في عملية استنطاق واستقراء واستيضاح للوضع العام للبلد خلال ثلاث سنوات دون أن يغيب غزواني عن الخلفية بوصفه من يتصدر الفعل .�وتهتم جردة الحساب هذه بما كان وما هو واقع دون التطرق إلى التحديات والرهانات الكبيرة وإلى ما يجب أن يكون أو ما يمكن أن يكون حسب أكثر الافتراضات واقعية، لأن ذلك سيحيلنا إلى حدود أعمق في التحليل لا يتسع لها الوقت، ربما في وقت لاحق مع التعرض للتحديات ومستقبل النظام، مع أنه لا فكاك من التعريج قليلا على ما يجب فعله …�خلاصة ما كان، أن الدولة ظلت منزوعة القلب، وكانت تعرف غيابا عميقا للتفكير والتخطيط والتعاطي مع ظروف وأحوال الناس بشكل وظيفي، ولم يكن للمستقبل أي حظ في القرارات؛ كان كل شيء يخضع للنوازع الشخصية، وكانت المعيارية غائبة في آلية اختيار أو تعيين موظفي الدولة الذين لم تكن هذه هي صفتهم في الحقيقية، فكانت التعيينات جزءا من لهو الرئيس الأسبوعي لملء الفراغ، فلم يكن هناك موظف مهم ولا أساسي ولا ضروري في منطق العشرية. كان دائما وصف ولد عبد العزيز لمعاونيه بالكلمات من نوع: "إطَيّْرهُمْ ماهُمْ مُهِمِّينْ" و"إطيرهم َأثِرْهِم إگدُّ إعدلُ شِ"، خاصة الوزراء وكبار الضباط فما بالك بالآخرين. وكان الكل يعمل ويقف عند أوامره ونواهيه، وهو من يعطي التصور، ويفتح الميزانية، ويوجهها، ويحدد رفوفها ومسّامها وحجم التشغيل فيها، وحجم ميزانية الاستثمار.. كل ذلك كان بيده ومكمن افتخاره وسطوته!�كان الحاضر، أو الشأن الحالي مع قدوم غزواني، نقيضا تماما للماضي من حيث العقلية ومفردات الخطاب والخلفية، فقد تم منح الحكومة والموظفين الصلاحيات العامة في تسيير وتدبر شؤون قطاعاتهم وتحمل المسؤولية في ذلك، بينما احتفظ الرئيس بإدارة ومتابعة المقاربة الاجتماعية والاعتناء بمحنة الفئات الرثة. كان التحول الكبير الذي يعمل عليه هذا التصور الجديد هو خلق دولة وظيفية واقتصاد صلب قادر على مواجهة الهزات، وهكذا تم ترشيد النفقات وزيادة الميزانيات ومراجعة الديون وزيادة الاحتياطيات من الذهب الخالص والعملة الصعبة والحفاظ على سعر الصرف عند نفس المستوى، كما تحولت تآزر إلى طوق نجاة لثلث الشعب على المستوى المعيشي وعلى مستوى التأمين الصحي، فلو لم تكن تآزر موجودة لكان هناك حاجة لآلية وظيفية للتدخل السريع الفاعل في مثل هذه الأزمات الماحقة والوصول إلى هذه القاعدة الواسعة من الفقراء، ولتأخر تدخل الدولة بشكل كبير ولكان أقل فاعلية ووظيفية .�كانت سياسية فتح مجال التنقيب وتنظيمه وتوفير الخدمات الأساسية للمنقبين (من ماء واتصال وصحة وحماية مدنية) وتوفير مشتر كبير (البنك المركزي) بأسعار السوق ل 25% من انتاجهم، عبارة عن توسيع قاعدة التوظيف وتعميم الدخل، وكانت ضغوط رجال الأعمال والمستثمرين الأجانب قوية للوصول إلى هذه الموارد، لكن الدولة منعت منح رخص الاستغلال وفي بعض الأحيان رخص التنقيب للشركات الكبرى من أجل إعطاء الموريتانيين، الذين اكتشفوا هذا القطاع وصار مجال دخل لهم، الوقت الكافي لاستغلاله وتمكينهم من خلق ومراكمة تجربة متعلقة باستغلاله خاصة أنه طويل الأمد. كانت قولة غزواني الشهيرة في ذلك أنه "ما بقيت أيادي أبنائنا تصل إلى الذهب، فلن يكون هناك استغلال أجنبي له". لقد ساهم هذا كثيرا في صلابة المجتمع وعدم وقوع 200 فرد (فرصة عمل المباشرة وغير المباشرة لهذا القطاع) تحت خط الفقر أو تحت ضغط الحاجة الكبيرة للدولة خاصة بالنسبة لمجتمع يعتمد في حياته على التكافل والاتكالية، لكن الدخل الكبير لهذا القطاع (328 مليار أوقية) أمّن الرفاه والحياة السعيدة للكثير من الأسر والأفراد وربطهم بأنشطة مهمة وواعدة ووظائف دائمة بعدما خرج من قبضة الجنرالات والعقداء الذين كانوا يفرضون الحماية على هذه المناطق فترة العشرية وكانت مصدر ثراء فاحش للكثير منهم إما عن طريق المناطق التي أصبحت مناطق عسكرية ومحرمة على المدنيين إليها، كما في تيرس، أو المناطق التي كانت مرخصة لشركات أجنبية مثل "تفرغ زينة "بالنسبة لتازيازت وبعض رخص التنقيب لشركات أخرى. لقد حرر الرئيس غزواني هذه المناطق من هذا الحجر الظالم فترة العشرية. ووجد المنقبون في منطقة الشگات آليات للتنقيب المدنيين تعمل جهارا نهارا تحت حماية الجيش بعد تحويل المنطقة إلى منطقة عسكرية، كما كانت بعض حفز التنقيب باسم نافذين معروفين في تجبرين!!؟؟�وغير بعيد عن تثمين الثروة المحلية، فجر الرئيس موارد جديدة "قديمة" من خلال إعلان توجه الدولة نحو دعم الزراعة البعلية، والاهتمام بالصيد القاري، ودعم إعادة المواطنين لمواطنهم الأصلية، بعد تثمين هذا المورد من جديد، وتحفيز المواطنين على استغلاله من أجل تحسين ظروفهم المادية والمعيشية، ومساهمة في دعم الاكتفاء الذاتي الوطني، وانعاش السوق المحلية، وتخفيف الضغط على سوق الغذاء الوطني المتمركز في العاصمة، وتخفيف الضغوط أيضا على سوق العمل وعلى استيراد الحبوب والاستهلاك الكبير للعملة الصعبة في استيراد هذه المواد، إضافة إلى تطوير الثقافة الغذائية المحلية، وخلق سلسلة عمل وميدان لاستغلال هذه الموارد. إنه تفكير عميق واستباقي للأزمات الغذائية التي قد تحدث عن نشوب الأزمات العالمية التي تجعلنا في فوهة المجاعة كلما ضاق الخناق العالمي على التصدير، فبالأمس كورونا واليوم أوكرانيا وغدا تايوان: ستكون تلك هي أكبر أزمة غذاء عالمية إذا نشبت حولها حرب لأن الصين هي أكبر موّرد تجاري للعالم .�كان المعطى الآخر المهم بالنسبة للحاضر هو تغير مفردات الخطاب السياسي إلى أن صارت جميع المخرجات السياسية مختومة بصبغة أخلاقية، وهكذا لم تعد فكرة ولا مبدأ المعارضة جريمة في حق الدولة أو في حق النظام، بل هي مقاربة وطنية لأصحابها الحق في التوظيف وفي الاجتماع بالرئيس وفي الدخول على الوزراء، وصارت الموالاة أيضا مقاربة سياسية وليست نفاقا كما درجت العادة على وصف كل من يقول كلمة ولو موضوعية في النظام بسبب الانسداد.�لقد كان الماضي عكس ذلك تماما حيث كانت المعارضة جريمة نكراء يقابلها الحرمان والسخط وسوء النعوت والألقاب. نتذكر مصطلح مثل "العجزة، المجرمين، أعداء الشعب والدولة" …في حق المعارضين وفي حق فعل المعارضة نفسه .�كانت سياسية محاربة الفساد هي نقطة الارتكاز الثانية بعد المقاربة الاجتماعية في توجهات غزواني.. كانت أوّل خطوة في ذلك المنهج هي منح الموظفين والمؤسسات كامل صلاحياتهم، وهكذا تم تحديد المسؤوليات، واختفى مصطلح "الفوگ"، أي التعليمات الصارمة التي لا محيد عنها في كل كبيرة وصغيرة. ورغم أن محاربة الفساد ليست فقط محاربة موظفين محددين ومنعهم من التوظيف في الدولة بقدر ما هي برنامج متكامل يتطلب الكثير من الإجراءات والقوانين الاجتماعية والإدارية والقانونية والمالية والاستثمار في تغيير العقليات وغيرها، فإننا في موريتانيا نتحدث فقط عن جزئية تتعلق بمحاكمة الماضي، كل الماضي، وكل من شارك فيه دون وضع قواعد وأسس لمثل هذا التوجه، ومع ذلك تم قبول محاكمة العشرية التي لم تكن لتقع لولا منح البرلمان كامل صلاحيته وقبول الأغلبية لها …لم يكن جديا حشر 315 شخص في ملف واحد، إلا أنه كان مفيدا للوصول إلى نقطة ارتكاز الفساد، وهناك محاكمة جارية له، لكن يجب أن لا ننسى أنه باستثناء قلة فقط كان الجميع ضحية التعليمات المباشرة من الرئيس، وكان أي رفض لتلك التعليمات يكون عقابه الطرد من الوظيفة والمتابعة بأجهزة التفتيش المسلطة على الرقاب، وهكذا تملّك الرعب أغلب ضعفاء النفوس من الموظفين، مع أنه هناك مجموعة من الاذكياء استطاعت الخروج سالمة من ذلك المأزق، وكانت قد لعبت دورا بارزا في تلك الحقبة، بل كانت سلفتها -وهي مثار قلق للرأي العام- بأنها ستلعب نفس المهمة لهذا النظام خاصة أنها ما تزال تسعد بعلوّ المقام وظيفيا أو معنويا، لكن الواقع أن الإرادة السياسية التي حولتها لذراع للفساد لم تعد قائمة، بل أن الإرادة الحالية عكس وضد ذلك التوجه، وبالتالي لن يكون لها حسب النتيجة: العلاقة الجدلية بين الشيء ومسببه، ان يكون لها نفس التأثير على مجريات عملية محاربة الفساد كما عرضنا، أي من الناحية العملية .�لقد رافق تلك الخطوات قرارات لحصار الفساد وتقويض دعاماته الأساسية، فلم تعد هناك حماية لأي فرد أو جماعة، كما تم منح لجان الرقابة المالية الصلاحيات الواسعة في التفتيش، وتم اعتماد توصياتها بشكل جذري، وهكذا أصبحت الإقالة دائما تتم حسب نتائج التفتيش وتتم في حق الفريق الذي كان يسير المؤسسة دفعة واحدة في حالة العثور على ثغرات كبيرة سواء كانت اختلاسا أو سوء تسيير أو أخطاء في التسيير. لقد قطع التفتيش رؤوس شخصيات ظلت تعتقد أنها تملك حماية من النظام بواسطة علاقة قرابة بالرئيس أو من يعتبرهم البعض ركائز النظام، وكانت النتيجة وخيمة بعد ضلوعهم في سوء التسيير. كما لم يتم التغاضي عن أي حالة فساد تحت أي ظرف، ووقّع أغلب الذين تمت إقالتهم من مدراء ووزراء من الذين تحوم حولهم تهم بالفساد اتفاقا بتسديد المبالغ التي وجهت إليهم تهمة بصرفها بشكل غير مبرر، وهكذا كانت أدوات الرقابة الأربع تعمل بشكل فعال وتكتشف وتراقب الفساد في ضوء عدم حماية أي أحد سواء تعلق الأمر بالمفتشية التابعة لوزارة المالية أو بالمفتشية العامة للدولة أو بهيئات الرقابة لكل قطاع وزاري أو بمحكمة الحسابات. وقد تم ترفيع مفتشية الدولة وإتباعها للرئيس مباشرة لتقوية دورها وحماية عملها من الضغوط السياسية التي قد تقع في ثنايا الحفاظ المتبادل على المصالح بين أجنحة النظام وتأثير بعضها على البعض. كما تم دفعة واحدة التخلص من جميع رؤساء الصفقات وإعادة اختيارهم من جديد على اساس معايير جديدة. الناس يتجاوزون كل هذه المعطيات إلى محاكمة النظام على أساس بعض المظاهر السطحية المرتبطة بالماضي سواء تعلق الأمر بأشخاص فعليين أو صور نمطية عنهم من خلال العمل في نظام فاسد منذ 20 سنة دون أي حساب لتغيُّر الإرادة السياسية نحو الإصلاح: ذلك شيء وهذا شيء آخر . وهكذا تظل المشكلة الكبيرة في أن كل هذه الخطوات لم يتم ربطها في خيط ناظم واحد مرتبط بالإرادة السياسية الجادة لمحاربة الفساد، كما تمت كل تلك العملية في ظلام دامس ودون جعجعة، وبالتالي لم يتم تثمينها ولا الترويج لها كما جرت العادة في المناسبات السياسية أو الإعلامية من طرف الإعلاميين ولا السياسيين، وهذا إن كان سيئا بالنسبة لاستثمار الجهود، فإنه يوحي بأنه جزء من قناعة وليس جزءا من دعاية سياسية. إن من لا يدرك الفرق لن يعترف بجهود محاربة الفساد المبذولة مهما كانت .�إننا نشاهد اليوم أن وتيرة التفتيش، حتى وإن ظلت غير مكتملة ولا ضاربة كما يريدها البعض، فإنها متسارعة أفقيا وعموديا حيث طالت وزارات وكل الشركات والمؤسسات المستقلة ماليا والإدارات الكبيرة في الدولة، وقد كان ضحيتها وزراء ذهبوا في التعديلات الماضية وكانوا يظنون أنهم مانعتهم حظيتهم عند الرئيس أو أنهم يتمتعون بحماية من رموز النظام ، وبهذا يكون التوجه العام أنه لا يوجد من هو بنجوة من التفتيش ولا من العقاب إذا كانت صحيفته التسييرية سيئة.
إن ثلاث سنوات من عمر الدولة لا ترمز لأي شيء، لكنها من عهدة سياسية ترمز لانقضاء أكثر الوقت، وبهذا يكون تقييم غزواني بين الظرفين أمر في غاية الصعوبة، لكن الخلاصة الكبيرة والتي يجب الوقوف عندها هي التساؤل العريض: هل كانت الوضعية التي استلم عليها غزواني الدولة طبيعية حتى نتوقع نتائج سريعة وإيجابية أكبر في شكل إضافة إلى ما سبقه أو فى ما وجد أمامه؟ وهل كانت الأوضاع اللاحقة سلسلة وإيجابية ومحفزة حتى تساعده بشكل أفضل في تحقيق محاسبة جيدة ؟
إننا على إطلاع أن كل الأوضاع والظروف والشروط التي تضافرت كانت ضد أي عمل جديد لتحسين الظروف الاجتماعية والاقتصادية للبلد، ومع ذلك تم تحقيق ما تم التطرق له في "سلسلة جردة الحساب" كنتائج للعمل الذي قدمه غزواني خلال هذه المدة. وهنا ننتظر المزيد الفوري حسب وتيرة الزمن نفسه ورهانات الاستحقاقات القادمة على ثلاث جبهات:
- جبهة محاربة الفساد وتقوية بنية الدولة الاقتصادية حتى تكون قادرة على توظيف الموارد الجديدة وتوزيعها في خطة وطنية تقوم على مستوى تكافؤ الفرص والحظوظ بين جميع الفاعلين والطموحين للاستفادة منها، وتدمير بنية وحلقات توزيع المصالح والمراكز المهمة في الدولة، ومحاولة أعمق للوصول إلى أعماق الشعب، �- إشراك الكفاءة الوطنية في مراحل التخطيط والتصور والتنفيذ، حتى تكون العملية الاقتصادية والاجتماعية متكاملة العناصر "الوطنية "،�- خلق نظام سياسي وطني قوي يقوم بمهمات النظام المعهودة أو إعلان توجه شعبوي قائم على انجازات تلمسها الطبقة التي تملك الإعلام والسياسية ويشاهدها الناس ويلمسونها بشكل أوسع في طريقهم إلى عملهم أو بيوتهم، يلمسونها في خدمتهم للبلد، في قوّتهم الشرائية، في قوتهم اليومي.. وتكون نتيجة للقرارات المهمة مثل: إصلاح قطاع الصيد، وتوطين بعض ثماره أو عيناته، ودعم الزراعة المروية نحو الاكتفاء الذاتي في الحبوب والخضروات، ودعم الشراكة بين الدولة ورجال الأعمال، أو تبني استراتيجية تأخذ بالخيارين دفعة واحدة .�وهكذا أؤكد كخلاصة شخصية، وانطلاقا مما سبق من تحليل، أن الرهان على الفرص التي كانت مرجوة من غزواني ما تزال قائمة بقوة عندما خاض تحديات قوية وصار أكثر تمرنا على ممارسة السلطة واتخاذ القرارات دون ملاحظة أي تراجع في الإصرار على تقديم الجهد في النهوض بالبلد، وكلما تقدم الوقت ستكون نقطة البداية، التي هي النية الحسنة والأخلاق الحميدة، أساسية في توطين فعل الدولة في النفوس.