أحببت مصر كما لم أحب أي بلد آخر. و هو حب لم أجد له تفسيرا يشفي الغليل..
هل لأنها أم الدنيا و مهد عجائبها السبع.
أم لأنها أرض الكنانة و أجنادها خير أجناد الأرض.
أم لأنها أول بلد قرأت اسمه محبورا على لوحي الخشبي الصغير حتى قبل أن أعرف أي شيء عن بلدي الأم.
فقد قرأت على لسان أحد أسلاف حكامها المتأخرين قوله تعالى: <<أليس لي ملك مصر>>.
ثم قرأت بعد ذلك وقد تحسن الوعي فأصبحت أتذوق إلى حد ما مرامي القصص القرآني قول عزيزها الصديق العادل، ربما أول حاكم مدني يعتلي عرشها من أوساط شعبها الطيب قبل رئيسها المرحوم:<< أدخلوا مصر إن شاء الله آمنين>>.
ثم قرأت بعد ذلك: <<.. اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم..>>
و طبعا لم أكن قد بلغت يومها مبلغا من العلم يخولني أن أفرق في المعني بين مصر مصرفة و ممنوعة من الصرف..
و هكذا ربما ألقي في روع ذلك الفتى الحدث الذي كنته و رسخ في لا و عيه من تكرار تلك الآيات الكريمة و مثيلاتها أن مصر هي رمز العظمة و الأبهة و الملك، كما هي بلد الأمن و السلم و الرخاء، و هي أيضا أرض الأحلام و تحقق الأماني و الرغبات.
و أيا ما كانت دواعي ذلك الحب الغامر، فإنه بدأ مع الصبى و مضى ينمو و يكبر مع الزمن.
و اليوم عاودني حبي القديم لمصر، وولهي الشديد بها، و أنا أتابع على التلفاز تلك الوقفة التضامنية التي و قفها المصريون حكومة و شعبا.. مسلمين و أقباطا.. رجالا و نساء مع إخوانهم من ضحايا حريق كنيسة إمبابة.
لقد كانت كل المواقف التي تصدر تباعا تزيدني فخرا بمصر و إكبارا لشعبها.. فهذا الرئيس يهاتف من أول لحظة بابا الكنيسة معزيا و مواسيا و مطمئنا أنه و الدولة في خدمة الكنيسة
ورعاياها، و هذا رئيس الوزراء ينتقل بطاقم وزاري كامل لمعاينة مسرح الفاجعة، وتقديم العزاء المباشر.
و هذه المبالغ السخية تصرف على الفور من خزائن وزارة التضامن على العائلات المتضررة. وهذه الدولة بكل أجهزتها و مصالحها و طواقمها معبأة....هل من باعث أجمل من هذا على حب مصر؟ و الوله بها؟
لكن خاطرا ما خطر ببالي و أنا أتابع تقريرا على الشاشة – شاشة الجزيرة بالطبع – يؤرخ لأهم حوادث الحرائق في تاريخ الكنائس المصرية.
فقد كان آخر تلك الحرائق كما قرأت ببنض أزرق ثخين على الشاشة حريق كنيسة إمبابة بالجيزة يوم 14 أغسطس 2022.
كنت أقرأ عبارات الخبر تباعا حتى وقعت عيناي على التاريخ 14 أغسطس .. أحسست بمغص ما خفي في داخلي و شعرت كأن الظلام يغشاني فأرجعت البصر كرتين أو ثلاثا أو ربما أكثر لعلي أسترجع ذكرى بدى لي طيفها يتراءى من بعيد خلف هذا التاريخ ..و فجأة و جدتني أصك و جهي على سبيل العتب و الملامة ..أنه اليوم ..14 أغسطس .. يوم رابعة
لقد نسيناه.. نسيناه في الإعلام ..كما نسيناه في السياسة بل و نسيناه حتى في الذكرى
قلت ذلك و طفقت في نفسي أعقد مقارنات بين مشاهد هذا اليوم و مشاهد تابعتها بقلب مكلوم و غيظ مكظوم ذات يوم من 14 أغسطس.
يومها لم تكن مصر – أعني طبعا مصر الدولة العميقة – بهذا الحنان الجارف و هذا السخاء الحاتمي و هذا التضامن الوارف تجاه أبنائها. يومها كانت مصر قد قررت أن تجيش نفسها ضد مصر.. كانت مصر تجتهد يومها مستميتة لتقضي على كلما هو طيب و نبيل و جميل على أرض مصر رافعة شعار: إحنا شعب.. و انتو شعب.
تساءلت و أنا أقرأ أحد العواجل على الشاشة 41 لقوا حتفهم في هذا الحريق المهول ..إنه رقم كبير.. إنها مصيبة .. إنها فاجعة عظيمة.. لكن فاجعة رابعة كانت أعظم.
قلتها في نفسي و أنا أتساءل كم يا ترى من رجال مصر الأبرار وكم من صباياها الأطهار و كم من شبابها الأحرار لقوا حتفهم وقتلوا بلا رحمة ولا شفقة يوم رابعة ذات 14 أغسطس
يومها ذاك أغرت السلطة بعض قادة جيش مصر، فسولت لهم أنفسهم إحياء سنة واراها قابيل الممتلئ ندما و حسرة مع جثة أخيه في التراب.
يومها كانت مصر - الرحيمة اليوم و المتضامنة جدا مع أبنائها-، كانت قاسية جدا و غير متسامحة جدا مع أبناء آخرين، تمسكوا بما اعتقدوه حقا لهم، و لم تغرهم دماءهم التي انسكبت أنهارا تروي ثرى مصرا الطيب لم تغرهم أن يواجهوا الدم بالدم .. بل ظلوا متمسكين حتى آخر رمق بشعارهم المسالم الوديع: سلميتنا أقوى من الرصاص.
ينبغي التنويه في الأخير إلى أن لا مشكلة لكاتب السطور مع الحكام في مصر، كما أن الانتماء إلى الإخوان مقام لا يستحقه و شرف لا يدعيه، و لكنه إنسان محب للعدل و الإنصاف، مولع بالقيم الإنسانية عندما تطبق على قدم المساواة بعيدا عن الامتهان و النفاق و الكيل بمكيالين.