استغراب واستدراك / أبو طارق

إن الشهية التوسعية للسلاطين والحكام المغاربة، وهوسَهم الجنونيَّ بقضم الأراضي واستعمار الشعوب ليس جديدا ولا غريبا، لأنه اختلال جيني عريق، يمثل صبغة وراثية في الحمض النووي لمعظم النخب السياسية والثقافية المغربية، ولكن اللافت والمستهجن هو أن تظهر تلك الطفرة المعتلة في خطابات الراسخين في العلم والمتربعين على هرم القيادة العلمية في مؤسسة محترمة، يكن لها الموريتانيون كل التقدير والإجلال، ويرونها فوق كل الاعتبارات الجغرافية والإقليمية والنزعات القومية والعنصرية، ويفترض أن كل دعوة تصدر عنها أو عن أحد كوادرها ومنتسبيها، فضلا عن قيادتها وربّان قاطرتها هي دعوة إسلامية جامعة، تستدعي من الماضي ما يستحث الحاضر، وتستشرف من المستقبل ما يحقق الوحدة الإسلامية المنشودة، في انسجام حضاري حقيقي تحت راية الله، على أسس شرعية أخوية، تجسد الهدف الأسمى الذي قدمت وما زالت أمتنا تقدم في سبيله نفوسها ونفيسها، بعيدا  عن دعاوى الجاهلية وعصبيات العرق والقومية والإقليمية، بعد ما ثبت فشلها واستبان عوارها في الحروب القومجية العبثية، والمسيرة الملكية غير المظفرة التي أخفقت على مدى نصف قرن في إخضاع الصحراويين البواسل، رغم التواطؤ والدعم الصهيوني والصليبي غير المحدود.

وحين خاب أملنا في استقلالية رجال العلم والتنوير هناك، وتبخر ما ظننا في بعضهم من الانعتاق والتحرر من عباءة الأوهام التوسعية للفرعونية السقيمة بداء جنون العظمة والاستعلاء، فإنني أود محاورتهم في  مفاهيم طال انقلابها، واستفحل اعتلالها لديهم عن بلدنا وسكانه الميامين.
أيها الأعزاء اسمحوا لي أن أدلف وإياكم إلى ماضي منطقتنا وسجلات إرشيفها، لنكتشف بجلاء وندرك بوضوح أن موريتانيا تاريخيا  لم تكن قبل احتلالها خاضعة لسيادة أية دولة، وقد ظلت خلال تلك الحقب المتطاولة قبل فترة الاحتلال  الفرنسي بلادا  سائبة من حيث النظام السياسي والإداري، ولم تخضع مطلقا لوصاية أو حكم سياسي بعد حكم دولة المرابطين التي تأسست على ربوعها، وبسواعد أبنائها، ولو اعتمدنا الحدود الجغرافية لكل إمبراطورية قامت حينا من الدهر ثم سقطت راياتها، وتلاشت حدودها،  لكان من حق موريتانيا صاحبة السبق في تأسيس الدولة المرابطية في المطالبة بكل  التراب المغربي والإسباني، ولكان للأشقاء السوريين الحق في المطالبة بكامل الحدود المغربية لكونها ظلت طوال الحكم الأموي جزءا لا يتجزأ من خريطة الخلافة الحاكمة بدمشق.

وما ذكره فضيلة شيخنا الدكتور الريسوني حفظه الله من وجود بيعة من بعض الموريتانيين، فعلى فرض صحتها فهي بيعة أفراد ولا تلزم من سواهم، وإذا سلمنا جدلا أن كل الموريتانيين والصحراويين قد بايعوا سلاطين المغرب بيعة شرعية، فقد سقطت تلك البيعة بفعل الإهمال الإداري  والاقتصادي والأمني، حيث تم احتلال تلك البلاد واستباحتها من طرف الصليبية الفرنسية والإسبانية، وضربتها عواصف الجوع وغارات المعتدين، ولم يتخذ ولاتها المفترضون أي إجراء لاستردادها أو غوث رعاياهم المزعومين.

ثم  إننا إذا استذكرنا خطاب الملك محمد الخامس بمناسبة استقلال المغرب عام 1957م، فإننا نجده يقول بالحرف:
(لقد بسطت المملكة اليوم كامل سلطانها على كامل الحوزة الترابية للمغرب).
وموريتانيا والصحراء الغربية يومها ترزحان تحت وطأة الاحتلال، كما أن الوثيقة الموجودة اليوم على رفوف المتحف بدائرة المعارف البريطانية بخط يمين السلطان المغربي محمد بن عبد الله المعروف بمحمد الثالث  الموقعة عام 1763م، يقر فيها جوابا على استفسار من السلطات الاسبانية عن حدود المغرب الجنوبية، تمهيدا لاحتلالها للصحراء الغربية أنها تنتهي  عند منطقة واد نون. 
وهذان إقراران صريحان من شخصيتين ملكيتين هما أعلى مستويات السلطة السياسية المغربية.
 
والحاصل أنه طالما لم تقم خلافة راشدة عامة ينخرط تحت حكمها  العالم الإسلامي، فإن هذه الحدود الحالية تعتبر فقهيا أملاكا عقارية لسكانها، ويعتبر كل طامع فيها أو متغول على حدودها صائلا يجب دفعه وصد عدوانه، حتى يبرم الله تعالى للأمة أمر رشد، ويقيم لها إمارة المؤمنين لا للمدمنين، وينصب لها إماما شرعيا يحكم بالحق والعدل، لا عميلا يحكم بواسطته الصهاينة والصليبيون.

وفي الختام، فإن بالمغرب من الطوام والموبقات العظام التي ليس آخرها التطبيع، وليس أولها الركوع بين يدي الحاكم، ما يجب على العلماء التنديد به وتشديد النكير على مقترفيه، بدل تحريضهم على سفك الدماء، وإعلان النفير صوب المؤمنين الآمنين، والاستعداد للسير خلفهم نحو قتال جيرانهم وإخوانهم في الدين والدم، كما أن لأمة الإسلام من المجد الضائع والماضي السليب ما هو أقمن بالتباكي عليه، وأجدر بتذكير السلاطين المغاربة باسترجاعه، من بلاد وشعوب لم تنتظم وإياهم في عقد، ولن تخضع لسلطانهم إلا في سراب الأوهام وعالم الأحلام، وقديما قال كعب بن زهير:
إن الأماني والأحلام تضلي